بقلم:محمود شقير
عن الدار الأهلية في عمان، وفي 293 صفحة من الحجم المتوسط، وبلوحة غلاف معبرة للفنان التشكيلي سليمان منصور، صدرت هذا العام، 2025 رواية "عين الزيتون" للأديب محمد علي طه، وفيها تتجسد بعد عدد غير قليل من المجموعات القصصية والروايات وأدب السيرة الذاتية، خبرة الكتابة السردية التي يتقنها الأديب طه، ويضيف إليها من إبداعه رؤى واجتهادات جديدة، ما يجعل روايته هذه ممتعة رشيقة متميزة.
وبرغم ما لديه من خبرة ومراس في كتابة السرد، فإن تواضع الكبار لم يمنعه من الاستعانة بآخرين من ذوي الثقافة الواسعة وسعة الاطلاع، فآثر أن يعرض مخطوطته على أصدقائه: المؤرخ أ. د. مصطفى كبها، والناقدين د. نبيه القاسم و د. رياض كامل والنائب أيمن عودة، لقراءتها وللاستفادة من ملاحظاتهم عليها، ومن ثم توجيه الشكر لهم على ذلك.
علاوة على ذكره استفادته من كتاب "شهادات على القرن الفلسطيني الأول" للصحفي إلياس نصر الله، وكتاب "يحكون حيفا- شهادات من ذاكرة أهلها" للناشط الاجتماعي حسين اغبارية، وكتاب "مذكرات محام فلسطيني حنا ديب نقارة، محامي الأرض والشعب".
وينهي هذه التوطئة بتوجيه الشكر والتقدير لصديقه الشاعر زهير أبو شايب على مراجعة الرواية وتحريرها.
بلغة جميلة وسرد ممتع، وتعزيزا لحضور الذاكرة الفلسطينية، تصف الرواية ملحمة الصمود والتشبث بأرض الوطن والبقاء فيه برغم القتل والعسف والتنكيل الذي طال المقيمين في الوطن، والمتسللين العائدين إلى الوطن الذين تسرعوا وغادروا تحت وطأة القذائف وطلقات الرصاص، ثم أدركهم الندم وعادوا متسللين، فما كان من السلطات المحتلة إلا أن "تكب" المتسللين الذين يقعون في قبضتها على الحدود اللبنانية من جديد، أو عند تخوم مدينة جنين لكي يلجأوا إلى الأردن، ثم يغافل هؤلاء المكبوبون سلطات الاحتلال ويعودون مرة أخرى وأحيانا مرات تحت جنح الظلام إلى أماكن الذكريات ومرابع الصبا والحب والحنين، إلى القرى والمدن التى يصفها محمد علي طه على نحو حميم.
وكما قال الكاتب على الصفحة 289 من الرواية: "لكل مدينة قصة، ولكل قرية قصة، ولكل عائلة عربية باقية قصة، ولكل فلاح قصة، ولكل كرم زيتون قصة، ولكل قطعة أرض قصة، ولكل بئر ونبع قصة، وصرنا يا حسرتي قصصا وحكايا".
مع ذلك، فإن معرفة الأديب طه بشروط الفن الروائي ومتطلباته أعطتنا تلك التفاصيل المشخصة التي اضطلع بها بطل روايته فارس، تلك التفاصيل التي يمكن تعميمها لتعبر عن الأقلية الفلسطينية التي بقيت صامدة في وطنها، محتفظة بهويتها الوطنية وبنقاء انتمائها للوطن، وبتحمل الصعاب من أجل ذلك.
ومنذ لحظاته الأولى يبدو فارس بطلا من لحم ودم، وليس فكرة مجردة يحركها المؤلف كيفما شاء، ولذلك، فقد نجا من المذبحة التي طالت قريته، عين الزيتون، بفعل الصدفة المحضة وليس بفعل بطولي او مأثرة، فقد حل في محل الراعي خميس الذي تحصل على إجازة لزيارة أهله، واحتمى بزريبة الأغنام حين وقع العدوان على القرية، وامتدت به المعاناة وهو يتنقل بالسر من قرية إلى أخرى إلى أن استقر به المقام في مدينة عكا.
أثناء هذا التنقل القسري تصرف فارس مثل أي كائن عادي، وقد شابت سلوكه الفردي بعض سلبيات؛ مثلا، حين استضافه صفوان في بيته وهو مشرد جائع خضع بسهولة لإغواء الزوجة سعدية التي تركها زوجها في الصباح التالي مع فارس دون اكتراث لما يمكن أن يحدث بينهما، وهو الأمر المستغرب من إنسان فلسطيني تحكمه عادات معروفة، فلا يظهر القصد من ذلك إلا في صفحات تالية؛ حين يعلمنا السارد أن زوج سعدية كان عقيما، وأنه تجاوبا منه مع رغبة زوجته في الإنجاب سمح لها بهذه الخلوة مع فارس، ومع ذلك يظل هذا الأمر مستغربا، إلا أن فارسا يتزوج سعدية في زمن لاحق بعد استشهاد زوجها.
ثم إنه، أقصد بطل الرواية، خضع لغواية الضابط الإسرائيلي المنحرف مضيفا بذلك إثما إلى سجله السلوكي بعد ممارسات غير سوية مع الحيوانات. أمر واحد كان يسيجه بخط أحمر أو بمئة خط أحمر وهو رفض العمالة التي عرضت عليه من الحاكم العسكري الإسرائيلي للوشاية على بني قومه لقاء البقاء في الوطن. ظل فارس على قناعة بأن البقاء في الوطن حق ثابت له لا يقايضه بخيانة الضمير وبالتنكر للهوية الوطنية واشتراطاتها.
هذا لا يعني أن كل من بقوا في البلاد إثر كارثة 1948 قد حافظوا على نقائهم الوطني وظلوا مخلصين للهوية وللوطن وللانتماء السوي الصحيح، فقد حقق المحتلون اختراقات في هذا الميدان، وذلك بتجنيد عملاء لمراقبة المواطنين الذين ظلوا متشبثين بالبقاء في البلاد، وللتضييق عليهم بأمل الخضوع لمشيئة السلطات أو لمغادرة البلاد.
يقول السارد على الصفحة 267 ما يلي: "كان لهم عين في كل مقهى، وفي كل مطعم، وفي كل ساحة، وفي كل مسجد (...) وكانت التهمة الكبرى هي استقبال رجل فلسطيني عائد من لبنان إلى البلاد للاطمئنان على والدته أو والده، أو كي يأخذ مصاغا دفنه في حديقة البيت، أو لعل الحظ يلعب له ويبقى في الوطن".
تفاصيل حميمة كثيرة تضمنتها هذه الرواية الجميلة، وقد استطاع محمد علي طه أن يعري ببراعة واقتدار ممارسات فترة الحكم العسكري التي فرضها المحتلون الإسرائيليون مدة عشرين عاما على الباقين في وطنهم من أبناء شعبنا الفلسطيني، ولم يكتف بتسليط الضوء على هذا الجانب المؤلم من المواجهة والمعاناة، بل إنه من خلال بطل روايته فارس وشخوص آخرين من النساء والرجال أظهر التصدي الشجاع لهذه الممارسات، وجعل التصميم على البقاء في الوطن من دون خضوع أو تنازل ثيمة تتكرر بين الحين والآخر على امتداد الصفحات.
ومن أجل أن تصل هذه الثيمة وما يتفرع منها من قيم وسلوكيات وتأملات إلى أوسع قطاعات القراء فقد حفلت الرواية بجماليات عديدة؛ من أبرزها الأسلوب السهل الممتنع الذي يميز السرد، وهو السرد المطعم بحس الفكاهة والسخرية العذبة واللجوء إلى الأمثال الشعبية التي تعزز مع بعض مفردات اللهجة العامية ومصطلحاتها أجواء البيئة الشعبية الفلسطينية.
وثمة استثمار جيد لتقنية الأحلام التي توسع من حضور الخيال وحضور التأملات التي تضفي على المعنى أبعادا ودلالات.
ثمة كذلك استعانة بالشعر حينا وبالغناء حينا آخر في ختام الفصول التي ينهيها الكاتب عند لحظة درامية لا تخلو من تشويق وتحفيز على متابعة السرد، وثمة إشارات ثقافية عديدة تثري النص وتزيده رونقا وبهاء.
ولعل ما يلفت النظر في الرواية التي حملت اسم قرية فلسطينية دمرها المحتلون إبان كارثة 48 وذبحوا منْ ذبحوا منْ أهلها وشردوا من شردوا منهم، ما يلفت النظر ذلك التصعيد الدرامي الذي رافق تنقل فارس الاضطراري من قرية إلى أخرى لهذا السبب أو ذاك، وصولا إلى التصعيد الأخير الذي طال فارسا لا لسبب إلا لأنه فلسطيني متشبث بالبقاء في وطنه غير مستعد لخيانة ضميره، مثله في ذلك مثل الأكثرية الساحقة من بني قومه، ما دفع السلطات المحتلة إلى محاولة طرده ليلا خارج الوطن.
فلم يستجب لإرادة المحتلين بل عاد تحت جنح الليل إلى حيث زوجته سعدية وابنه مروان وابنته ليلى، ليواصل معهم ومع أبناء شعبه وبناته المهمة التي لا تعلو عليها أية مهمة: البقاء في الوطن.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها