في خطابه الأخير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، أطلق رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ادعاءً جديداً مفاده أنّ تراجع أعداد المسيحيين في الأراضي الفلسطينية سببه السلطة الوطنية الفلسطينية وسياساتها. هذا الادعاء لا يُعدّ مجرد تصريح سياسي عابر، بل يُجسّد خطابًا تضليليًا يهدف إلى تحميل الضحية مسؤولية ما يقع عليها من انتهاكات، وتبرئة الاحتلال من سياساته الممنهجة التي طالت جميع مكوّنات المجتمع الفلسطيني، مسلمين ومسيحيين على حد سواء.
مقالنا الحالي يسعى إلى تفنيد هذه المزاعم وفق منهجية أكاديمية قائمة على تحليل الخطاب السياسي، واستعراض السياق التاريخي والديموغرافي، وتقديم شواهد موثقة من تقارير منظمات دولية وكنسية وحقوقية، تُظهر أن الاحتلال هو الفاعل الرئيس وراء تقليص الحضور المسيحي في فلسطين وتهديد هويته الدينية والاجتماعية.
- الأبعاد الخطابية في ادعاء نتنياهو
يُمكن النظر إلى خطاب نتنياهو باعتباره نموذجًا من الاستراتيجية البلاغية القائمة على قلب الحقائق، حيث يُمارس ما يسميه علماء الاتصال "الإسقاط السياسي" (Political Projection)، أي اتهام الطرف الآخر بما يقترفه المتحدث نفسه. فبينما يشهد العالم توثيقَا متزايدًا لانتهاكات الاحتلال ضد المقدسات المسيحية والإسلامية في القدس والضفة الغربية وغزة، يحاول نتنياهو تحويل النقاش إلى تحميل المسؤولية للسلطة الفلسطينية.
- هذا الخطاب يخدم غايتين أساسيتين:
- الأولى: تشويه صورة السلطة الفلسطينية أمام الرأي العام الدولي وتصويرها كجهة عاجزة أو مُقصّرة تجاه حماية الأقلية المسيحية.
- الثانية: إخفاء مسؤولية الاحتلال المباشرة عن التهجير، مصادرة الممتلكات، وخلق بيئة طاردة تُجبر المسيحيين على الهجرة.
- السياق التاريخي والديموغرافي للوجود المسيحي في فلسطين
يُشكّل المسيحيون جزءًا أصيلاً من النسيج الاجتماعي الفلسطيني منذ القرون الأولى للميلاد، إذ ارتبطت فلسطين بكونها مهد المسيحية ومركزًا روحيًا عالميًا. ورغم حضورهم التاريخي الوازن في مدن مثل القدس، بيت لحم، الناصرة ويافا، فإن نسبهم السكانية شهدت تراجعًا ملحوظًا على مدى القرن الماضي، لأسباب متداخلة ترتبط مباشرة بالتحولات السياسية والاستعمارية والاحتلال الإسرائيلي.
- الفترة العثمانية والانتداب البريطاني: تشير إحصاءات الانتداب البريطاني لعام 1922 إلى أنّ المسيحيين شكّلوا نحو 11٪ من سكان فلسطين التاريخية.
- نكبة 1948: أدت عمليات التهجير القسري، التي ارتكبتها العصابات الصهيونية بحق القرى والمدن الفلسطينية، إلى نزوح آلاف المسيحيين عن مناطقهم، لا سيما من يافا وحيفا والقدس.
- حرب 1967 وما بعدها: أدت النكسة إلى سياسات جديدة تمثلت في فرض قيود مشددة على الإقامة والتنقل ومصادرة الأراضي، ما أسهم في موجات أخرى من الهجرة المسيحية.
- القدس الشرقية: تراجعت نسبة المسيحيين من نحو 25٪ عام 1922 إلى أقل من 1٪ اليوم، حيث يقدَّر عددهم بحوالي 10,000 نسمة فقط.
بيت لحم: في منتصف القرن العشرين كان المسيحيون يشكّلون حوالي 86٪ من سكان المدينة، بينما تراجعت النسبة إلى ما يقارب 10٪ فقط بحلول 2017.
- الوضع الراهن: تشير بيانات الإحصاء الإسرائيلي لعام 2022 إلى أنّ عدد المسيحيين في إسرائيل يبلغ حوالي 187,000 نسمة (أي 1.9٪ من السكان)، ومعظمهم من العرب الفلسطينيين⁶. أما في الأراضي الفلسطينية (الضفة الغربية وقطاع غزة)، فتُقدّر نسبتهم اليوم بأقل من 1٪ من إجمالي السكان.
هذا التراجع لا يُمكن تفسيره عبر ادعاءات نتنياهو التي تُحمّل السلطة الفلسطينية المسؤولية، إذ إن السياق التاريخي والديموغرافي يُظهر بوضوح أنّ الاحتلال الإسرائيلي وسياساته الممنهجة (تهجير، مصادرة، قيود على الإقامة) شكّلت العامل الأساس وراء تقليص الحضور المسيحي في فلسطين.
- انتهاكات الاحتلال بحق المسيحيين والمقدسات
1. الاعتداء على الكنائس والأديرة
● تقارير سنوية صادرة عن مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان وثّقت عشرات الاعتداءات من قبل المستوطنين على كنائس في القدس والضفة الغربية، شملت حرق أبواب ورسم شعارات عنصرية وتخريب ممتلكات.
● شهدت كنائس تاريخية مثل كنيسة الجثمانية وكنيسة المهد أعمال تضييق أو محاولات مصادرة للأراضي المحيطة بها.
2. مصادرة الممتلكات والتهجير
● المسيحيون في القدس الشرقية تعرضوا لسياسات استيطانية مشابهة لما يتعرض له بقية السكان الفلسطينيين: أوامر هدم، مصادرة عقارات، ومنح امتيازات قانونية لجمعيات استيطانية تضع يدها على أملاك الكنيسة.
● في أحياء مثل سلوان والقدس القديمة، تم إجبار عائلات مسيحية على إخلاء منازلها لصالح مستوطنين بحجج قانونية مصطنعة.
3. التهديدات والاعتداءات الفردية
● منظمات مثل Rossing Center for Education and Dialogue توثق سنويًا اعتداءات تشمل البصق على رجال دين مسيحيين، تكسير صلبان، أو مضايقات للحجاج والزوار.
● هذه الاعتداءات تُرتكب في معظمها من قبل مجموعات مستوطنين متطرفين، وتُسجّل غالبًا دون محاسبة جدية من سلطات الاحتلال.
- تهديد الهوية الدينية المسيحية في فلسطين
سياسات الاحتلال لا تستهدف الأفراد المسيحيين فحسب، بل تستهدف الهوية الجمعية المسيحية في فلسطين:
1. التهجير القسري: القيود على الإقامة في القدس تحول دون بقاء أجيال شابة مسيحية في المدينة، ما يؤدي إلى تفريغ ديموغرافي تدريجي.
2. الاعتداء على الممتلكات: مصادرة أراضي الكنيسة أو تعطيل مشاريعها الخدمية والتعليمية يضرب البنية التحتية للمجتمع المسيحي.
3. التهميش الاجتماعي: بيئة عدم الأمان الناتجة عن العنف الاستيطاني والسياسات الاقتصادية تدفع المسيحيين إلى البحث عن فرص أكثر استقرارا خارج فلسطين.
بهذا، يصبح الوجود المسيحي التاريخي في فلسطين- الذي يشكّل جزءًا أصيلاً من هوية الأرض ورسالتها الروحية العالمية- عرضة لخطر التلاشي.
- توثيق الاعتداءات كأداة لمواجهة الخطاب التضليلي
تفنيد مزاعم نتنياهو لا يقتصر على السجال السياسي، بل يحتاج إلى إسناد علمي وحقوقي عبر التوثيق. ويتم ذلك من خلال:
1. تقارير منظمات دولية مثل: هيومن رايتس ووتش، العفو الدولية، B'Tselem، وتقارير مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان.
2. إحصاءات الكنائس المحلية التي تحتفظ بسجلات دقيقة حول أعداد المصلين، حالات الاعتداء، وهجرة الأعضاء.
3. التوثيق الميداني بالصور والفيديوهات وشهادات شهود العيان.
4. الخرائط والصور الجوية التي توضح عمليات المصادرة والتهجير العمراني.
هذه الأدوات تعزز مصداقية الرواية الفلسطينية أمام المجتمع الدولي، وتُظهر أن القضية ليست "رأيًا مقابل رأي"، بل وقائع مثبتة.
وفي الختام؛ إن خطاب نتنياهو في الأمم المتحدة حول تراجع أعداد المسيحيين في فلسطين ليس سوى أكذوبة سياسية جديدة تُضاف إلى سجل من محاولات التضليل والتشويه. فالحقيقة التاريخية والديموغرافية واضحة: الاحتلال هو السبب الرئيس في تآكل الوجود المسيحي، عبر التهجير، الاعتداء على المقدسات، مصادرة الممتلكات، وخلق بيئة غير آمنة.
إن استهداف الهوية المسيحية في فلسطين ليس مسألة داخلية فلسطينية، بل هو تهديد لتراث إنساني عالمي وللنسيج الحضاري الذي شكّل فلسطين عبر آلاف السنين. ومن هنا، يصبح واجب المجتمع الدولي أن يتحرك لحماية هذا المكوّن الأصيل، وإدانة سياسات الاحتلال بدلاً من التماهي مع خطاباته التضليلية.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها