نهى عودة (كاتبة وشاعرة فلسطينية)

لم يكن الفلسطيني يومًا إلا شهيدًا أو مناضلًا

لم يكن الفلسطيني يومًا إلا شهيدًا أو مناضلًا؛ فالشهادة والنضال لم يبدآ مع نكبة عام 1948 فحسب، بل هما امتداد لمسيرة طويلة بدأت منذ الاحتلال البريطاني، حيث عُرف الفلسطيني بشجاعته وصلابته في مواجهة كل من اعتدى على أرضه وكرامته. ومع تعاقب الزمن، وبين لجوءٍ ونكبة، ظل الفلسطيني يتحول من شهيدٍ في الوطن إلى شهيدٍ في المنافي، يطارده طغيان المحتلين أينما ذهب، لكنّه في كل مرة يُنصف باستشهاده، ويُخلَّد بكلمته، ويُكرَّم بحضوره. الفلسطيني استثناء بين شعوب العالم، لأنه لا يعيش إلا حاملًا قضيته، ولا يُعرف إلا عنوانًا للتضحية والإصرار على الحياة الحرة.

شهداء 23 نيسان 1969

حين نُقلب صفحات التاريخ الفلسطيني في لبنان، يتوقف بنا الزمن عند يوم 23 نيسان/ أفريل 1969، يوم خرجت المخيمات الفلسطينية لتقول إن الفلسطيني ليس لاجئًا صامتًا بل هو شعب حيّ يطالب بحقه في الكرامة والحياة. ذلك اليوم، ارتقى أربعة من أبنائها شهداء: نعيم عباس، مفلح علاء الدين، علي عطية، ومحمد شرارة، فصاروا عنوانًا لمرحلة كاملة من الوعي والنضال.

في ستينيات القرن العشرين، كان الفلسطينيون في لبنان يعيشون في مخيمات مكتظة، محرومين من أبسط حقوقهم المدنية. ومع صعود العمل الفدائي بعد معركة الكرامة في آذار/ مارس 1968، تزايد الالتفاف الشعبي حول المقاومة، وصار المخيم فضاءً للعمل السياسي والتنظيمي.

في 23 نيسان/أفريل 1969، اندلعت تظاهرات واسعة في بيروت وصيدا والمخيمات، احتجاجًا على التضييق الذي واجهته المقاومة الفلسطينية. الصحف اللبنانية آنذاك، مثل "النهار" و"السفير" لاحقًا، أشارت إلى أن المواجهات تحولت إلى "انتفاضة شعبية عارمة"، وأكدت أن "دماء الشباب الفلسطيني كتبت عنوانًا جديدًا للعلاقة بين المخيم والمحيط" (الأرشيف الصحفي 1969).

الشهداء الأربعة

نعيم عباس (21 عاما): استشهد برصاص القناصة أثناء التظاهرات في عين الحلوة. اسمه يُذكر دائمًا إلى جانب رفيقه محمد شرارة. في كل ذكرى، يصبح نعيم رمزًا للفرد الذي يتحول إلى وجدان جماعي، يذكّر بأن الوعي لا يموت بالرصاص.

مفلح علاء الدين (22 عاما): شاب لم يتجاوز العشرين، حمل حماسة الجيل الجديد في المخيم. كان استشهاده صدمة مضاعفة، لأنه جسّد الوجه الطفولي للمخيم الذي لم يهنأ بطفولته. في أرشيف كلمات التأبين، وصفه أحد الخطباء بأنه "شهيد البراءة الذي سبق زمنه".

علي عطية (23 عاما): سقط وهو يهتف للحرية، فتحوّل جسده إلى راية حملها رفاقه. يذكر اسمه اليوم في المنابر وفي المهرجانات الوطنية كشاب جسّد الصدق البسيط للمخيم: إن الكرامة تُصان بالتضحية.

محمد شرارة (23 عاما): كان إلى جانب نعيم عباس في التظاهرة، واستُشهدا معًا. وصفته شهادات رفاقه بأنه "الرفيق الذي لا ينفصل". استشهادهما المشترك أعطى للذكرى بعدًا مضاعفًا، وكأنهما كتبا وصية واحدة بدمين متلاحمين.

دماؤهم لم تُحسب خسارة، بل تحوّلت إلى مكسب وطني. فقد عجّلت الانتفاضة بفتح باب الحوار الذي أفضى بعد أشهر قليلة إلى اتفاق القاهرة (تشرين الثاني/ نوفمبر 1969)، الذي منح الفلسطينيين حق العمل السياسي والتنظيمي داخل المخيمات. وهكذا، أصبح استشهاد الأربعة جزءًا من المعادلة التي بدّلت وجه الوجود الفلسطيني في لبنان.

من دمائهم إلى اتفاق القاهرة

لم يكن ارتقاء الشهداء الأربعة حدثًا عابرًا، بل كان دمهم صوتًا سياسيًّا مدوّيًا سرّع من الحوارات بين منظمة التحرير الفلسطينية والدولة اللبنانية، وصولًا إلى اتفاق القاهرة في تشرين الثاني/ نوفمبر 1969، الذي رعاه الرئيس المصري جمال عبد الناصر. هذا الاتفاق أعطى للاجئين الفلسطينيين في لبنان إطارًا جديدًا لحياتهم اليومية ونضالهم، حيث نصّ على:

- تنظيم الوجود الفلسطيني المسلّح داخل المخيمات، ومنحه حق الدفاع عن النفس.

- إعطاء الفلسطينيين الحق في ممارسة العمل الفدائي ضد الاحتلال انطلاقًا من الأراضي اللبنانية الحدودية.

- تحسين أوضاع المخيمات، عبر السماح بإقامة لجان شعبية تهتم بشؤون التعليم والصحة والتنظيم الداخلي.

- الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية كإطار سياسي يمثل اللاجئين، ما أعطاها شرعية قوية على الساحة اللبنانية والعربية.

ورغم الجدل اللاحق حول الاتفاق وتداعياته، فإن الفلسطينيين في المخيمات، وخصوصًا في عين الحلوة، نظروا إليه كأحد ثمار التضحيات التي دفعوها بالدم. لقد مثّل الاتفاق في حينه نقلة نوعية: من لاجئ محروم من كل الحقوق إلى لاجئ يمتلك مساحة من التنظيم والكرامة والقدرة على إدارة شؤونه.

من ذاكرة المقابر إلى ساحات العمل الوطني

تُتلى أسماؤهم في المؤتمرات الوطنية الفلسطينية التي تُعقد في لبنان، خصوصًا في صيدا وبيروت.

عُلّقت صورهم في مهرجانات الذكرى السنوية لهبة نيسان/ أفريل، وفي فعاليات اتحاد الطلبة والاتحادات الشعبية الفلسطينية.

ذُكرت أسماؤهم في كلمات افتتاحية لمؤتمرات فصائل منظمة التحرير، تأكيدًا على أن دمهم كان "المدماك الأول لحقّ التنظيم والاعتراف".

في نشاطات المخيمات الثقافية (أمسيات شعرية، معارض فنية، ندوات طلابية)، تحضر أسماؤهم دائمًا كشواهد على التضحية المبكرة.

مخيم عين الحلوة: مخيم النضال

لا يمكن الحديث عن شهداء 23 نيسان/ أفريل دون التوقف عند مخيم عين الحلوة، الذي خرج منه اثنان من الشهداء الأربعة، وكان مسرحًا أساسيًا للانتفاضة. مخيم "عين الحلوة" لم يكن مجرد تجمّع للاجئين، بل صار مدرسة للنضال، ومختبرًا للوعي الوطني الفلسطيني في لبنان. من أزقته الضيقة خرجت أصوات الهتاف الأولى، ومن ساحاته انطلقت التظاهرات التي دوّت خارج أسواره.

عرف مخيم "عين الحلوة" كيف يحوّل جراحه إلى قوة، وفقدانه إلى ذاكرة، فصار بحقّ مخيم النضال، قدّم الشهداء والجرحى والأسرى، وأبقى قضيته حية في وجدان اللبنانيين والفلسطينيين على حد سواء.

لقد ارتقى نعيم عباس، مفلح علاء الدين، علي عطية، ومحمد شرارة في يومٍ عادي تحوّل بدمائهم إلى محطة استثنائية. لم يكونوا قادة سياسيين ولا أصحاب مناصب، بل كانوا أبناء المخيم الذين هتفوا للكرامة. بموتهم، صارت حياتهم حياةً أخرى، تسكن الذاكرة وتؤسس لمستقبل مختلف. إن دماءهم لم تضع، بل تحوّلت إلى حجر أساس في بناء حضور الشعب الفلسطيني في لبنان، وفي حفظ البوصلة نحو الحرية والعودة.