الشاعرة والكاتبة الفلسطينية نهى عودة

منذ عقود، اعترفت عشرات الدول في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية بدولة فلسطين، وكان لكل اعتراف منها قيمة إنسانية وسياسية عميقة، ساهمت في منع ذوبان الهوية الفلسطينية وفي تثبيت الوجود على خارطة العالم. غير أن الاحتلال الصهيوني وحلفاءه هم من سعوا إلى التقليل من شأنها، وسمّوها "دولًا نائية"، بينما هي في حقيقتها دول ذات سيادة وإرادة حرة، وقفت إلى جانب الحق حين حاول الأقوياء دفنه.

أما الجديد اليوم، فهو أن دولًا كبرى طالما كانت تُصنَّف في خانة الحلفاء الاستراتيجيين للكيان الصهيوني، انتقلت إلى صف الاعتراف بدولة فلسطين. وهذا ليس مجرد حدث دبلوماسي عابر، بل تحوّل أيديولوجي عميق ينقل القضية من هامش حاول الاحتلال عزله والتقليل من شأنه، إلى قلب النظام الدولي، حيث يتحول الاعتراف بدولة فلسطين إلى سلاح سياسي يرفع في وجه "إسرائيل" نفسها.

منذ عام 1948، كان الهدف الصهيوني واضحًا: اقتلاع الفلسطيني من أرضه، ومحو هويته، وتذويب قضيته في أروقة النسيان. تحوّلت فلسطين إلى لاجئين في المخيمات، والضفة الغربية تحت سيطرة الأردن، وغزة تحت إدارة مصرية، حتى بدا وكأن الكيان الفلسطيني قد انمحى نهائيًّا. غير أن التاريخ لم يكتب كما أراد المحتل، بل كتب كما شاء الشعب الفلسطيني: بالصمود، وبالدم، وبالهوية التي استعصت على الإلغاء.

واليوم، وبينما تستمر محاولات محو وجه غزّة تحت النار، وتقف الضفة الغربية في وجه الاستيطان، يتغير ميزان العالم فجأة: دول كبرى طالما كانت الداعم الأول للاستعمار الصهيوني، خرجت لتعلن اعترافها الرسمي بدولة فلسطين. اعتراف ليس كسائر الاعترافات السابقة، بل هو تحوّل استراتيجي يحمل أبعادًا سياسية وفكرية تُشكل خطرًا مباشرًا على المشروع الصهيوني ذاته.

من الغياب إلى العودة.. "أبو عمار" وفلسطين

في زمن الغياب، كان الفلسطيني مجرد "لاجئ بلا وطن". لكن ياسر عرفات (أبو عمار) ظهر ليعيد إلى فلسطين اسمها وكيانها. ووحّد الفصائل تحت راية منظمة التحرير. وأعلن استقلال فلسطين في الجزائر عام 1988، مثبتًا أن هذا الشعب الفلسطيني لن يُمحى.

عاد إلى غزة ورام الله عام 1994، وأسس السلطة الوطنية الفلسطينية: أول كيان سياسي فلسطيني على الأرض منذ النكبة. وأعاد عشرات الآلاف من المبعدين والمنفيين، وأطلق مؤسسات تحمل اسم فلسطين.

في الذاكرة الشعبية، يبقى "أبو عمار" رمز الكفاح والعودة: الرجل الذي حمل الوطن في حقيبة، ثم عاد ليضعه على الطاولة الدولية وفي قلب العالم والكوكب.

من الحصار إلى الاعتراف: أبو مازن وفلسطين

بعد رحيل أبو عمار، جاء زمن أصعب: احتلال متجذر، وسلطة محاصرة، ومشروع دولة مُهدَّد بالذوبان. هنا برز محمود عباس (أبو مازن) كحارس على الهوية في زمن الإطفاء.

انتزع عام 2012 اعتراف الأمم المتحدة بفلسطين كدولة مراقب، خطوة كرست وجود فلسطين في القانون الدولي. وتمسك بالمسار السياسي رغم الجمود، ليُبقي اسم فلسطين حاضرًا على كل منبر. وصنع شبكة علاقات دولية أثمرت اليوم عن اعترافات غير مسبوقة من دول غربية كبرى طالما كانت الحليف التاريخي لإسرائيل.

في ذاكرة الفلسطينيين، يُنظر إلى أبو مازن باعتباره رمز الصبر الدبلوماسي، الرجل الذي حافظ على الكيان قائمًا حين كان الخطر الأكبر هو التبخير السياسي.

غزة والضفة: معادلة الدم والجذور

اليوم، وبينما تتساقط الأبنية والأجساد في غزة تحت القصف، تُمحى معالم المدينة في محاولة لإنهاء المقاومة واقتلاع المكان. في المقابل، تقف الضفة الغربية كجذور راسخة: تنتفض القرى، ويواجه الناس الجدار، وتستمر الحياة كأنها إعلان مقاومة يومي.

هذه المعادلة تكشف أن فلسطين تُكتب الآن بجناحين: جناح الدم في غزة، وجناح الصمود في الضفة، وبينهما الاعتراف الدولي الجديد الذي يضيف بعدًا ثالثًا: جناح الشرعية العالمية.

الاعترافات الجديدة: خطر استراتيجي على الكيان الصهيوني

الاعتراف بفلسطين ليس أمرًا جديدًا؛ فقد اعترفت عشرات الدول عبر العقود، خصوصًا من آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية. لكن هذه الاعترافات بقيت محصورة في "هامش العالم"، بعيدًا عن مراكز القرار الدولي.

الجديد اليوم أن دولًا كبرى في الغرب، لطالما كانت الركيزة الأساسية للمشروع الصهيوني، خرجت لتعترف رسميًّا بدولة فلسطين. هذه ليست مجرد خطوة دبلوماسية، بل تحوّل أيديولوجي:

- دول كانت تبني سياساتها الخارجية على حماية "إسرائيل"، باتت ترى أن مصلحتها في دعم الدولة الفلسطينية.

- ما كان يُعدّ سلاحًا لـ "إسرائيل" في المحافل الدولية، يتحوّل الآن إلى سلاح يرفع في وجهها.

- هذا التحوّل ينقل القضية الفلسطينية من دائرة التعاطف الأخلاقي إلى دائرة الشرعية السياسية.

-الاعترافات الجديدة تُضعف الرواية الصهيونية التي أنكرت وجود شعب فلسطيني أصلًا، وتضع الاحتلال في عزلة متزايدة حتى بين حلفائه التقليديين.

معنى التحوّل: من النسيان إلى الاعتراف

- مع أبو عمار، خرج الفلسطيني من العدم ليعود إلى الأرض.

- مع أبو مازن، صمد الكيان السياسي وسط محاولات الاجتثاث.

- مع غزة، يكتب الدم شهادة على أن الهوية لا تُمحى بالقصف.

- مع الضفة، تتشبث الجذور بالأرض في وجه الجدار.

- مع الاعترافات الدولية الجديدة، يُضاف إلى الهوية الفلسطينية بعد جديد: شرعية من قلب العالم الذي كان يومًا سندًا لـ "إسرائيل".

القضية الفلسطينية أمام ظرفية تاريخية فارقة

القضية الفلسطينية اليوم تقف في ظرفية فارقة: بين محو غزة وصمود الضفة، بين كفاح التاريخ وتحولات السياسة. الاعترافات الجديدة ليست النهاية، لكنها بداية مرحلة جديدة، تُثبت أن المشروع الصهيوني الذي بُني على الطمس يواجه اليوم خطر الانكشاف.

فلسطين لم تعد مجرد ذكرى في مخيم، ولا قضية إنسانية عابرة. فلسطين اليوم دولة يعترف بها العالم، وشعب يثبت وجوده، وكيان ينهض رغم القصف والاحتلال.

إنها شهادة أن الطمس لم ينجح، وأن الهوية الفلسطينية عادت أقوى مما أرادوا، تحملها دماء غزة، وجذور الضفة، واعترافات العالم التي تحوّلت من الهوامش إلى قلب القوة الدولية.