قراءة انطباعية في رواية الكاتبة الفلسطينية وفاء داري
المقدمة
تُمثّل رواية أطياف للكاتبة الفلسطينية وفاء داري إضافة نوعية إلى السرد الفلسطيني والعربي المعاصر. فهي ليست مجرد عمل روائي تقليدي، بل شهادة حيّة على معاناة المرأة الفلسطينية وتحدياتها المتشابكة بين البُعد الاجتماعي والثقافي والسياسي. تنقل الرواية القارئ إلى عوالم المرأة الفلسطينية التي تعيش في ظلّ منظومة مزدوجة من القيود: قيود المجتمع بما يفرضه من أعراف وتقاليد ودين وقيم متوارثة، وقيود الاحتلال بما يحمله من قهر واستلاب وتهجير.
بهذا المعنى، لا تُقدّم الرواية حكاية فردية فحسب، بل تطرح قضايا إنسانية أوسع، تجعل من المرأة الفلسطينية مرآةً للمرأة العربية عمومًا، وتضعنا أمام جدلية معقدة تجمع بين الذاكرة والهوية، بين الفردي والجماعي، وبين الحلم والخيبة.
التحليل
أولًا: المرأة الفلسطينية بين الخاص والعام
قدّمت الرواية صورة المرأة الفلسطينية لا بوصفها كائنًا هامشيًا، بل باعتبارها رمزًا للتجربة الجمعية التي تعكس مأساة الإنسان الفلسطيني. فمعاناتها لا تقتصر على قهر الأعراف الاجتماعية الذكورية، بل تتضاعف بفعل الاحتلال الذي يقتحم يومياتها ويقوّض أبسط أحلامها. وهكذا تصبح المرأة في الرواية استعارة عن الأرض نفسها: الخصوبة المهدَّدة، والهوية المقهورة، والصمود المتجدد.
ثانيًا: البنية السردية والرمزية
مزجت وفاء داري بين الواقعي والرمزي، حيث تتحوّل التفاصيل الفردية إلى مجازات جمعية. فالسرد لا يكتفي بتوثيق الحدث، بل يفتحه على التأويل: الخيبة تتحول إلى فلسفة وجودية، والحب يصبح فعل مقاومة، والأمومة تتحوّل إلى أرضٍ تحتضن أبناءها في مواجهة الموت والسجون والمنافي. هذا التوظيف الرمزي منح النص أفقًا رحبًا للقراءة، وأبعده عن حدود السرد التقليدي.
ثالثًا: جدلية الأمل والخيبة
أحد أبرز محاور الرواية هو التوتر بين ما نزرعه وما نحصدُه. فالحياة لا تمنح دائمًا ثمار الجهد المبذول، بل كثيرًا ما تأتي الخيبات من أقرب الدوائر: من العائلة، من الجسد، من الذات نفسها. ومع ذلك، فإن النص لا يغلق باب الأمل، بل يترك نافذة مشرعة للإيمان بأن البذور التي لم تُزهر اليوم قد تُزهر غدًا، وهو ما ينسجم مع البُعد الفلسفي للرواية.
رابعًا: جغرافيا المكان الفلسطيني
سلّطت الرواية الضوء على القرى والمدن الفلسطينية، فغدت الجغرافيا جزءًا من الهوية السردية. وقد انعكس وعي الكاتبة العميق بتاريخ المكان على النص، مانحًا إياه عمقًا واقعيًا يُمكّن القارئ من إعادة التفكير في العلاقة بين الذاكرة الفردية والجماعية.
خامسًا: اللغة والأسلوب
جاءت لغة الرواية مشحونة بالصور والإيحاءات، بعيدة عن المباشرة والتقريرية. فهي لغة تُراهن على جمالية التعبير وقوة الإيحاء، ما يتيح للقارئ حرية التأويل، ويجعل النص أكثر انفتاحًا على القراءات النقدية المتعددة.
سادسًا: البعد النضالي
القلم في هذه الرواية ليس مجرد أداة للبوح، بل هو فعل مقاومة بامتياز. وهكذا تنفتح الرواية على البُعد النضالي الذي طالما ميّز الأدب الفلسطيني، مؤكدةً أنّ الأدب لا ينفصل عن قضايا الإنسان الكبرى، وأنّ الكتابة نفسها فعل مواجهة للبطش والاستلاب.
الخاتمة
بهذه العناصر، تُثبت رواية أطياف أنّها ليست مجرد نص أدبي، بل وثيقة وجودية وإنسانية، وشهادة على مأساة متجددة وأمل متجدد في آن واحد. إنها رواية تُنصف المرأة الفلسطينية والعربية، وتؤكد أنّ الأدب ما يزال قادرًا على إعادة الاعتبار للهوية والذاكرة والصوت الإنساني المقاوم.
يتخذ السرد بنية جدلية تتقاطع فيها ثنائية الداخل/الخارج: الداخل يتمثل في التجربة الشعورية للمرأة بما تحمله من قلق، أحلام مؤجلة، ورغبة في التحرر؛ أما الخارج فيتمثل في قهر الاحتلال وتداعياته المادية والرمزية. هكذا يصبح المكان الفلسطيني في الرواية أكثر من جغرافيا؛ إنه حامل للذاكرة والهوية، ومكوّن فاعل يوجّه مسار السرد ويؤطره.
تكشف الرواية عن انكسار الحلم الفردي أمام شروط جماعية قاهرة، لكنها في الوقت ذاته تؤسس خطابًا مقاومًا يربط استمرار الهوية النسوية بقدرتها على التضحية والصمود. ومن هنا، فإن أطياف لا تُقرأ كرواية تقليدية بقدر ما تُقرأ كنصٍّ يعيد إنتاج سردية المرأة الفلسطينية بوصفها كيانًا يتنقل بين موقع الضحية وفاعل المقاومة.
تأتي رواية أطياف امتدادًا لمسار الرواية الفلسطينية التي خطّ ملامحها كتّاب كبار مثل غسان كنفاني وإبراهيم نصر الله، لكنها تنبض بخصوصيتها المتفرّدة. فهي تُصغي لوجع المرأة الفلسطينية وتحوّله إلى لغة، وتُحيل الألم الجمعي إلى ذاكرةٍ حيّة، لتجعل من السرد فعل مقاومة بقدر ما هو فعل حياة. بهذا المعنى، تغدو أطياف نصًا يحرس الهوية من التلاشي، ويمنح الذاكرة أجنحة تطير بها أبعد من حدود الجغرافيا، لتظل فلسطين حاضرة في الأدب كما في الوجدان.
الشاعرة والكاتبة الفلسطينية نهى عودة

تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها