لم تمر مرحلة على الدول العربية منذ الحرب العالمية الأولى وما أسفر عنها من تقسيم وتقاسم هيمنة ونفوذ بين الدول الاستعمارية أخطر على أمنها واستقرارها من هذه المرحلة.

- مظاهر المرحلة القادمة

تتميز المرحلة القادمة، التي نشهد فصولها حالياً، بمزيد من سياسة الإخضاع للدول العربية والإسلامية بالقوة العسكرية للنّفوذ والهيمنة الأميركية بأداتها الكيان الاستعماري الإسرائيلي. وما يحدث من حرب إبادة وتطهير عرقي للشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية على مدار سنتين يأتي بتحدٍ صارخ من قبل الولايات المتحدة الأميركية واداةـا "إسرائيل" للإرادة الدولية وللشرعة الدولية. وما حدث ويحدث في سوريا ولبنان من اعتداءات منهجية واحتلال أراضٍ واعتداءات بطائرات من دون طيار على قافلة فك الحصار في تونس واليمن، وأخيراً في دولة قطر، ليس إلا بداية لمخطط يهدف إلى مزيد من تقسيم الدول العربية والإسلامية الكبيرة بسكانها ومساحاتها وغناها بثرواتها وموقعها الاستراتيجي الجغرافي.

- العدوان على قطر

العدوان على قطر لم يكن البداية ولن يكون النهاية، كما صرّح بذلك مجرم الحرب نتنياهو ورئيس الكنيست وأعضاء حكومته. وبوقاحة قال مندوب كيانه بالأمم المتحدة إنه رسالة للشرق الأوسط، وأن اليد العسكرية الغاشمة الإسرائـي/أميركية قادرة على الوصول لأي دولة وقصف ما تصنفه أنه يشكل أو قد يشكل تهديداً لأمن ومصالح أميركا وقاعدتها العدوانية- الكيان الاستعماري الإسرائيلي المصطنع.

- العدوان الإسرائيلي بضوء أخضر أميركي على قطر يمثل:

- استخفافاً وانقلاباً على ميثاق الأمم المتحدة ومبادئه.

- استعراضاً للقدرة على التدمير الشامل، وخاصة مصادر الطاقة والثروات الطبيعية للدول العربية والإسلامية، في حال تفكير أي منها بالخروج عن المظلة الأميركية ورفض القبول بالكيان الإسرائيلي بحدود جغرافية جديدة "إسرائيل الكبرى" لتصبح سيدة وقائدة فعلياً للعالم العربي والإسلامي.

- خطوة لقياس مدى وكيفية ردود الفعل العربية والإسلامية على هذه السياسة العدوانية التوسعية: هل ستبقى مقصورة على إصدار بيانات الاستنكار والشجب والرفض التي سرعان ما تتلاشى، أم قد تتخذ مساراً عملياً جديداً لم تعهده أميركا و"إسرائيل" سابقاً؟ بدا هذا الاختبار بدايةً من دول مجلس التعاون الخليجي، التي تربطها اتفاقية أمنية ودفاعية مشتركة، وخاصة من قبل الشقيقة الكبرى المملكة العربية السعودية لما تحتله من مكانة مرموقة عربياً وإسلامياً، والتي تتعرض لضغوط أميركية للتخلي عن القضية الفلسطينية. ثم تقاس ردة فعل بقية الدول العربية والإسلامية المستهدفة، خاصة تركيا وباكستان وماليزيا وإندونيسيا، لمدى نجاح المخطط الأميركي في الاستفراد بكل دولة دون أي رد تضامني عملي معها مهما واجهت من أشكال العدوان والحصار، بعد نجاحه في الاستفراد بفلسطين على الرغم من أنها تشكل خط الدفاع الأول عن الأمن القومي العربي، والاكتفاء بإصدار بيانات داعمة نظرياً دون أي إجراء عملي سياسي أو اقتصادي يتصدى للمخطط الإسرائيـلأميركي التوسعي الذي بُشر به سابقاً واستُمر في تنفيذه عملياً، مما ساهم في إدامة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية المحتلة والمعترف بها دولياً، والمضي قدماً في إجراء تغييرات جغرافية وديموغرافية وتشريعية في الأرض المحتلة خلافاً للقانون الدولي واتفاقية جنيف الرابعة، واستمرار حرب الإبادة والتطهير العرقي بمخطط واضح لتهجير قسري للشعب الفلسطيني خارج وطنه.

- قمة الدوحة

بناءً على ما تقدم، تأتي قمة الدوحة العربية الإسلامية في ظرف استثنائي يستدعي ويتطلب وضع استراتيجية استثنائية موحّدة بمضمونها وبرنامجها ورادعة بتنفيذها، تنتصر ليس لفلسطين وقطر فحسب، بل للمبادرة بالتصدي العملي للمشروع الأميركي الهادف لبسط نفوذه لعقود قادمة، استباقاً لولادة نظام عالمي متعدد الأقطاب. يمكن للعالمين العربي والإسلامي، لما يتمتعان به من عناصر قوة، حماية الأمن القومي العربي والإسلامي بمفهومه القطري والجمعي، وقوامها:

1. التعامل مع أميركا المنحازة بلغة المصالح: فلم يعد مقبولاً تأمين استمرار المصالح الأميركية السياسية والاقتصادية دون أي اعتبار للمصالح والحقوق العربية والإسلامية وحقها في السيادة على ثرواتها وتراب أوطانها دون تهديد.

2. الإعداد الحقيقي لبناء صناعة تكنولوجية عسكرية ذاتية: فالأمة العربية والإسلامية غنية بعقولها وثرواتها. لقد أثبت العدوان الإسرائيلي على قطر وعدم اكتشاف الرادارات القطرية للطيران والصواريخ الإسرائيلية، وعدم تصدي قاعدة العديد الأميركية لتدمير الصواريخ والطيران الإسرائيلي، أن القواعد الأميركية المنتشرة في عدد من الدول ليست بالضرورة للدفاع عن تلك الدول أو صون أمنها، مما يتطلب من جميع الدول العربية والإسلامية المبادرة بوقف شراء السلاح الأميركي والأوروبي الذي ثبت عدم فعاليته عند الحاجة أو بحكم السيطرة عليه من صانعيه.

3. رفض التبريرات الأميركية بعدم إبلاغ قطر بالعدوان لحظة انطلاق طيران العدو الإسرائيلي: فالتكنولوجيا والرادارات الأميركية الأكثر تطوراً، إضافة إلى الأقمار الصناعية الأميركية، اكتشفت ذلك مبكراً وفقاً لوسائل إعلام أميركية؛ ما يوجب عدم الثقة بالكلام والوعود الأميركية المنمقة. القياس والحكم هو ما تقوم به أميركا من أفعال عملية ومواقف في مجلس الأمن والجمعية العامة، وما هو الموقف الأميركي الذي حال دون إصدار قرار من مجلس الأمن يندد بالعدوان الإسرائيلي على قطر، ورفض مجرد ذكر إسرائيل في البيان الصحفي — هذا دليل واضح.

4. الاتفاق على بناء نظام اقتصادي تكاملي مشترك بدءاً من تكتلات إقليمية ضمن سياق شامل يعزز الأمن الاقتصادي والاجتماعي في إطار التنمية المستدامة والتحرر من الاستيراد الخارجي، خاصة فيما يتعلق بالتكنولوجيا.

- حتى تكون استثنائية- مطلوب من قمة الدوحة مغادرة الروتين

لم تعد قيمة لأي مخرجات وقرارات تصدر عن قمة الدوحة العربية الإسلامية إذا لم تغادر الروتين؛ إذ أن إصدار بيان ختامي، ولو حمل مواقف متشددة اقتصرت على الكلام والجمل الرنانة، لن يكون ذا قيمة إذا لم يرافقها إجراءات تنفيذية عملية محددة وفورية التنفيذ.

- المطلوب بشكل ملح وفوري من قمة الدوحة، التي تنعقد في ظل:

- استمرار التصريحات الإسرائيلية عن عزمها على استهداف قطر وغيرها من عواصم ومدن الدول العربية والإسلامية.

- رفض وقف عدوانها وجرائمها في غزة والضفة الغربية وقلبها القدس تنفيذًا لقرار مجلس الأمن رقم 2735 ولقرارات محكمة العدل الدولية.

- وفي الوقت الذي يجتمع فيه وزير الخارجية الأميركي مع مجرم الحرب نتنياهو وزمرته للبحث في آلية تنفيذ عملية التهجير القسري التي تُصنّف دولياً جريمة تطهير عرقي لأبناء الشعب الفلسطيني من قطاع غزة بدءاً من شهر تشرين الأول القادم.

بات لزاماً على قادة الدول العربية والإسلامية المشاركة وغير المشاركة في قمة الدوحة الاستثنائية، ومع تزامنها مع عقد الدورة 80 للجمعية العامة، العمل على إصدار قرارات تُنفذ فوراً وفي اتجاهات عدة:

1. قطع كافة أشكال العلاقات السياسية والاقتصادية والتجارية والثقافية والإعلامية والأمنية مع الكيان الإسرائيلي الاستعماري العدواني العنصري.

2. خفض مستوى العلاقات السياسية والدبلوماسية وتجميد العقود الاقتصادية والتجارية والعسكرية مع الولايات المتحدة الأميركية، رسالة غضب على سياستها المنحازة للكيان الإسرائيلي المارق دون احترام للحقوق العربية والإسلامية؛ مفادها البدء بالتعامل مع أميركا من موقع الاستقلالية وتبادل المصالح المشتركة دون ازدواجية وانتقائية وبالندية في التعامل.

3. تحديد جدول زمني قصير لا يتجاوز أسابيع لإلزام "إسرائيل" بتنفيذ القرارات الدولية ذات الصلة، بدءاً من قرارات مجلس الأمن رقم 2334 و2735 وقرار الجمعية العامة رقم 10/24 الصادر في 18 أيلول الماضي، تحت طائلة العمل على عزلها دولياً.

4. التقدم بمشروع قرار للجمعية العامة للأمم المتحدة بتجميد عضوية إسرائيل في الأمم المتحدة لتقاعسها عن شروط العضوية المنصوص عليها في المادة الرابعة من الميثاق ورفضها تنفيذ القرارات الدولية ذات الصلة، وإقرار فرض العقوبات المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة.

5. اعتبار أميركا طرفاً مباشراً في الصراع، مما يترتب عليه تحييدها عن التصويت في مجلس الأمن على القرارات المتعلقة بالقضية الفلسطينية.

نعم، فلتكن قمة الدوحة استثنائية ليس بتوقيتها وظرفها فحسب، وإنما بمخرجاتها وقراراتها واتخاذ الإجراءات والتدابير اللازمة لنقل التكتل العربي الإسلامي من تكتل تابع إلى قطب مستقل فاعل على الساحة العالمية مع قرب ولادة نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب.

إجهاض المؤامرة الإسرائيلية الأميركية بتهجير الشعب الفلسطيني خارج وطنه، ودعم صموده على أرض وطنه ونضاله من أجل الحرية والاستقلال وإقامة دولته الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس، يعني إجهاض المؤامرة ذاتها التي تسعى لتمكين الكيان الاستعماري الإرهابي الإسرائيلي من توسيع حدوده تنفيذًا لإقامة "إسرائيل الكبرى" على حساب دول الإقليم والخليج العربي، التي باتت على رأس قائمة الاستهداف.

حتى تكون قمة الدوحة استثنائية، الشعب العربي والأمة الإسلامية ينتظران ويتطلعان إلى قرارات استراتيجية وإجراءات وتدابير عملية استثنائية رادعة للعدو الإسرائيلي ولكل من يساعده ويحميه، وأن تجد هذه القرارات سبيلها إلى التنفيذ الفوري حتى لا تبقى حبرًا على ورق ومحجوزة في الأدراج. هل من أمل؟.