في خطوة قد تسبق وقف الحرب، تقوم إسرائيل بتدمير آخر معالم مدينة غزة التي عرفها أصحابها والعالم منذ عقود. الأبراج هي أحد هذه المعالم التي شُيِّدت في غزة خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وكانت منذ توقيع اتفاقيات أوسلو ومرحلة انسحاب إسرائيل على مرحلتين، وتسلم السلطة الوطنية الفلسطينية الحكم، مؤشراً على نهضة غزة الحديثة. ومما يؤسف له أن حماس، عندما نفَّذت انقلابها على الشرعية الفلسطينية عام 2007، أقدمت على قذف المناضلين الوطنيين الفلسطينيين من فوق هذه الأبراج. وكانت هذه سابقة خطيرة في الحياة السياسية الفلسطينية، قادت إلى أخطر انقسام في تاريخ الشعب الفلسطيني.
من الواضح أن قراراً اتخذ في اجتماع واشنطن، الذي قدَّم خلاله بلير وكوشنير خططهما لقطاع غزة، نصَّ على تدمير ما تبقّى من مبانٍ في القطاع عموماً وفي مدينة غزة تحديدا، ليُبرر ذلك إعادة بناء شاملة وفق مشروع «ريفيرا غزة». والتدمير يعني أيضاً استحالة عودة النازحين إلى أماكن سكنهم وحصرهم في مناطق ضيقة مخنوقة، وتحويل ظروف حياتهم إلى بيئة طاردة. والرهان الإسرائيلي هنا أن يملَّ الفلسطينيون من حياتهم البائسة ويتسلَّلوا بالعشرات وربما المئات إلى دول أخرى.
الهدف هنا مزدوج: تدمير كل المعالم وربما محو كل ما كان موجوداً في ذاكرة الناس وخلق واقع جديد تماماً. والهدف الثاني، بعد إزاحة المعالم والبناء، هو السعي إلى إزاحة البشر أو الجزء الأكبر منهم؛ فالمشروع الاستعماري المُعد لقطاع غزة لا يحتمل لا تاريخاً ولا جغرافية ولا سكاناً كانوا في المكان منذ آلاف السنين.
لا شيء يبرر تدمير أبراج مدينة غزة، وهي مؤهلة لاستيعاب عدد أكبر من السكان؛ بل إن التدمير المنهجي يُنفَّذ لتحقيق هدف التغيير الشامل، وهو محو الواقع الحالي وإنشاء شيء جديد كلياً. والتبرير الذي يسوِّقه جيش الاحتلال الإسرائيلي بأن حماس تستخدم هذه الأبراج للمراقبة ولتنظيم هجمات، مبرّر واهٍ؛ لأن كل ما فوق الأرض في غزة مكشوف تماماً لطائرات الاستطلاع والروبوتات التي تتنقّل داخل البيوت والشقق وفي زوايا الشوارع. فالتكنولوجيا العسكرية الإسرائيلية المتطورة لا تجعل أي شيء فوق الأرض مفاجئاً، وربما ليس تحت الأرض أيضاً.
المبرر العسكري للتدمير لا يقنع أحداً، ويبقى الهدف استراتيجياً: إلغاء وجود قطاع غزة كما يعرفه أصحابه والعالم، وتهيئة الواقع لتمرير مشروع «ريفيرا غزة» وتحويل كل القطاع إلى ركام لا مكان فيه لحياة البشر، وتهيئة جغرافيا سكانية مُتحكَّم بها في مناطق محددة سلفاً، وتحويلها إلى بؤر بؤس لا يمكن العيش فيها طويلاً، فيتحقق بذلك هدف التهجير ويتقدم المخطط الصهيوني كما هو مرسوم.
تكمن مشكلة الخطط الاستعمارية في أنها تهمل دائماً ذكاءَ وتمسّك وصبرَ أصحابَ الأرض الأصليين: المواطنين الغزيين الذين خبروا كل أشكال القمع والموت والإرهاب والجوع، وحافظوا على عزيمتهم وإصرارهم على البقاء. لن يرحلوا كما يتخيّل نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة؛ فالغزيون لديهم روابط لا تشبه أي روابط أخرى بين الناس والمكان المتأصل فيهم. يربطون المكان بذاكرة صلبة تمكّنهم من الصمود في أسوأ الظروف للحفاظ على وجودهم في تفاصيل ذاكرتهم. وما داموا موجودين في المكان فإن بإمكانهم استعادة الحياة التي بقيت في ذاكرتهم قوية.
المخطط الاستعماري يختزل دوماً في تقديره مدى تمسّك الشعوب بأرض وطنها، والشعب الفلسطيني يقدّم كل يوم مثالاً حياً لهذا التمسك. فقد أثبت الفلسطيني كم هو صبور ويمكن أن يعيش بأقل الوسائل، لكنه لن يترك أرض وطنه. وأي عملية إعادة بناء في غزة لن تتمُّ إلا بجهود أصحاب الأرض ومن أجلهم.
قد يظن كاتس ومن فوقه نتنياهو أن تدمير أبراج غزة سيُقوّض إرادة المواطنين الغزيين، لكنهم واهمون. الغزيون، وهم يرون التدمير، يفكّرون في الوقت نفسه مباشرةً في كيفية إعادة بناء غزة التي يعرفونها، لا تلك التي يتخيّلها نتنياهو. والمهم اليوم أن تتوقف الحرب، وبعدها مباشرة سنرى كيف سيعيد أهالي غزة بناء مدنهم وقراهم؛ فهم العنصر الثابت الوحيد في القطاع، وما بقي يمكن تدميره وإعادة بنائه.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها