بين ركام الأبراج المنهارة وصوت القصف المتواصل، يواصل الاحتلال الإسرائيلي تنفيذ مخططه الدموي ضد غزة، ممعنًا في استهداف المدنيين وتدمير العمران، في مشهد يعكس إصرارًا ممنهجًا على تحويل القطاع إلى منطقة غير قابلة للحياة. ومع تصاعد التصريحات العدوانية من قادة الاحتلال وتلويحهم بمراحل أكثر خطورة، يُطرح التساؤل حول دلالات هذا التصعيد وأبعاده، وإلى أي مدى يمكن أن ينجح في فرض سياسات التهجير والاقتلاع التي يسعى الاحتلال إلى شرعنتها.
الباحث في الشؤون الإسرائيلية والعلاقات الدولية د.رائد نجم قدّم في حديث خاص لموقع "فلسطيننا" الإلكتروني قراءة شاملة للمشهد الراهن، مؤكدًا أن ما يجري في غزة هو جزء من خطة استراتيجية إسرائيلية تستهدف تفريغ القطاع من سكانه عبر القوة العسكرية والحصار الخانق، بغطاء سياسي ودبلوماسي أميركي.
في قراءته للمشهد الميداني، أشار د.نجم إلى أنّ الاحتلال يحشد وحدات عسكرية كبيرة مدعومة بالاحتياط، لاحتلال مدينة غزة، ويتقدّم من مختلف الجهات وصولاً إلى حدود تخوم مدينة غزة وشارع الجلاء ومنطقة الشيخ رضوان التي تعتبر قلب مدينة غزة، مُقتربةً من الجنوب سعيًا للسيطرة على باقي مدينة غزة، بالتوازي مع قصف مدفعي وصاروخي مكثّف يستهدف مناطق جباليا النزلة، الزرقاء، الشيخ رضوان شرق الجلاء، الصفطاوي، والزيتون وصولاً إلى محيط الصبرة، حيث تستهدف القنّاصة بدورها كل من يتواجد أيضًا في هذه المناطق.
وأضاف أنّ الاحتلال يتعمد استهداف الأبراج السكنية بهدف الضغط على السكان ودفعهم للنزوح نحو الجنوب، وإخلاء مدينة غزة وإجبار الفصائل على الاستجابة لشروط الاحتلال الإسرائيلي، في إطار يخدم سيناريو التأجيل، عبر دفع السكان تدريجيًا نحو منطقة المواصي في رفح، باعتبارها محطة مؤقتة تمهّد لعملية التهجير القسري لاحقًا.
وتحدث د.نجم عن المشهد الإنساني المتفاقم في قطاع غزة بفعل غياب أماكن أو خيم إيواء كافية لكل الذين غادروا مدينة غزة باتجاه الجنوب، لا سيما بعد نزوح مدينتي رفح وخان يونس، علاوة على انعدام البنية التحتية وندرة المياه النظيفة والوقود وغاز الطهي، بل وحتى المواد الغذائية التي تدخل بشكل محدود ما يجعل أسعارها إن توفرت باهظة جدًا، إلى جانب انهيار شبه كامل للمنظومة الصحية نتيجة الحصار على الأدوية والإمدادات نتيجة سيطرة الاحتلال على المعابر وفرضه الحصار على الكميات التي تدخل من الأغذية والأدوية.
وحول تصريحات رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو بشأن ما أسماه "الاختيار الحر" لمغادرة غزة عبر رفح، وصف د.نجم هذه الطروحات بأنها "وقحة" ومجافية للحقيقة، مؤكّدًا أنّ من يحرم الفلسطيني من حقه الطبيعي في الأمن وقت الحرب، ومن يمنع دخول الغذاء والدواء والبضائع والوقود، ويقطع الكهرباء، ويهدم المنازل والمدن والبنى التحتية والمدارس، ومن يعيق التعليم والمنظومة الصحية والطبية، هو بذلك يدفع السكان للبحث عن بدائل، لا يترك للسكان أي خيار حقيقي للحياة الكريمة، وهو بذلك يدفع السكان للبحث عن بدائل.
وأوضح في هذا السياق أنّ نتنياهو يحاول تجميل سياسة التهجير القسري بإظهارها كخيار طوعي، تمامًا كترامب الذي أشار في أكثر من مرة إلى أن الأهالي سيذهبون إلى أماكن وبيوت جميلة في محاولة لتجميل التهجير القسري والتطهير العرقي، ممّا يعكس تطابق الرؤى بين إسرائيل والإدارة الأميركية فيما يتعلق بتهجير شعبنا الفلسطيني، باعتباره المخطط والهدف الرئيس من كل الحرب على قطاع غزة والضفة منذ السابع من أكتوبر وما قبله، وهو تهجير وترحيل شعبنا وتصفية قضيتهم الوطنية ومنع قيام الدولة الفلسطينية.
أمّا تصريحات وزير حرب الاحتلال حول "السيطرة الكاملة على مدينة غزة"، فرأى فيها د.نجم تجسيدًا للسياسة العامة للكابينيت الإسرائيلي، وقال إنّ موضوع السيطرة على مدينة غزة هي الورقة التي قررت حكومة الاحتلال استخدامها للضغط لفرض شروط نتنياهو الخمسة وهي: إطلاق سراح الرهائن، نزع سلاح حماس، نزع سلاح الفصائل، استبعاد السلطة الوطنية وحماس من أي إدارة مستقبلية للقطاع، الإبقاء على وجود عسكري وأمني إسرائيلي دائم في القطاع.
ولفت إلى أنّ استهداف الأبراج السكنية وتشريد آلاف الأسر دون مأوى يفاقم الكارثة الإنسانية المتفاقمة أصلاً جراء صعوبة الأوضاع المعيشية وانعدام مقومات الحياة، وهو يعكس بوضوح استراتيجية الاحتلال في استخدام الدمار كأداة ضغط سياسي، محذّرًا من أنّ المرحلة المُقبِلة قد تشهد توسيع العدوان وتصعيدًا إضافيًّا سعيًا لفرض هذه الشروط، باعتبار نتنياهو أنّ هذه الشروط هي التي يمكن أن تضمن له وضع نهاية لهذه الحرب دون أن يكون الطرف الخاسر الأقل جماهيرية داخل الشارع الإسرائيلي خصوصًا مع اقتراب الانتخابات الإسرائيلية واهتزاز مكانة الليكود والائتلاف الحاكم.
أمّا على المستوى السياسي، فقد أوضح د.نجم أنّ واشنطن تواصل لعب دور الغطاء لجرائم الاحتلال وعدوانه، بل وهي شريكة رئيسة في ذلك، وهو ما بدا جليًا في محاولاتها تقييد الحراك الفلسطيني الرسمي على الساحة الدولية، عبر إلغاء تأشيرات الوفد القيادي الفلسطيني، وعلى رأسه سيادة الرئيس محمود عباس، إلى الولايات المتحدة الأميركية، وبالتالي حرمانهم من الذهاب إلى الأمم المتحدة في ظل الماراثون الدولي المنتظر للاعتراف بالدولة الفلسطينية.
وأضاف: "ومع ذلك لا نستطيع أن ننفي أنّ هناك محاولات للبحث عن مخرج، وربما التقطت مصر هذه الإشارات وبدأت بالاتصال مع الفصائل واستدعت وفدًا من حركة "حماس" بعد تواصل وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي مع المبعوث ويتكوف، وطبعًا الاتفاق على مبادرة تتضمن الخطوط العريضة لروح المبادرة التي طرحها ترامب أي إطلاق سراح كل الأسرى من أجل إنهاء الحرب مع استبعاد حركة "حماس" وإيجاد بديل سلطوي في داخل قطاع غزة ومشاركة عربية ودولية في المرحلة المقبلة".
وأشار د.نجم في هذا السياق إلى وساطات أخرى، من بينها الوسيط السابق في صفقة شاليط، الذي تواصل بشكل مباشر مع عضو حماس غازي حمد لنقل ملامح المقترحات الأميركية، فضلًا عن القنوات الجارية بين ويتكوف والوسيط القطري.
ويرى د.نجم أنّ هذه التحركات تعبّر عن محاولة أميركية لإيجاد مخرج للأزمة واحتواء تداعيات سياسات حكومة نتنياهو، لا سيما بعد تصريحات ترامب الأخيرة التي تحدّث فيها عن تراجع مكانة إسرائيل دوليًا وانحسار نفوذ اللوبي اليهودي في الكونغرس، ما يفرض على واشنطن السعي لتحسين صورة إسرائيل.
وأضاف أنّ ما يجري اليوم في المنطقة والإقليم الذي أصبح على حافة الهاوية بسبب بلطجة إسرائيل ورئيس حكومتها، لا يتوافق مع الحسابات الاستراتيجية الأميركية، بخاصة مع تراجع مكانة إسرائيل دوليًا وبروز تحولات دولية كبرى تتجسّد في قمّة منظمة شنغهاي التي جمعت الصين وروسيا والهند، وهو ما يعكس ميل الهند للابتعاد عن محور الولايات المتحدة والتوجه نحو عالم متعدّد الأقطاب.
وقال إنّ هذه التحولات، إلى جانب المواقف الأوروبية المتنامية المؤيدة للاعتراف بالدولة الفلسطينية، تُفاقِم خسائر واشنطن الاستراتيجية وتكشف حدود الرهان على سياسات نتنياهو، التي وإن خدمت الأميركيين في لحظة معيّنة بالتصعيد ضد إيران ومحورها، فإنّها اليوم تستنزف الولايات المتحدة وتُضعِف موقعها الدولي.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها