تلتقي في ربيع الأول ذكرى المولد النبوي الشريف مع ذكرى الإسراء والمعراج، وهما مناسبتان تضيئان طريق الأمة نحو استعادة جوهر رسالتها. فمولد النبي محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن حدثًا عاديًا في تاريخ البشرية، بل كان إيذانًا ببداية عهد جديد قوامه العدل والرحمة والوحدة. أما رحلة الإسراء والمعراج، فقد ربطت بين مكة والقدس، وبين الأرض والسماء، لتجعل من فلسطين قلبًا روحيًا وسياسيًا للأمة الإسلامية.

- المولد النبوي: ميلاد الرحمة المهداة

قال الله تعالى: ﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾ (الأنبياء: 107).

بهذه الآية تُختصر الرسالة النبوية، إذ جاء محمد صلى الله عليه وسلم ليجسّد معاني الرحمة في أبهى صورها: رحمة بالضعفاء، عدل للمظلومين، وحياة كريمة للناس كافة. لم يكن النبي قائدًا روحيًا فحسب، بل كان رجل دولة أسّس مجتمعًا متماسكًا قائمًا على العدل والمساواة، ليعطي نموذجًا حضاريًا يستمد من السماء روحه، ويخدم الأرض بإنسانيته.

- الإسراء والمعراج: البعد الديني والسياسي للقدس

قال الله تعالى: ﴿سبحان الذي أسرى بعبده ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله﴾ (الإسراء: 1).

في هذه المعجزة النبوية، ارتبطت مكة بمركز الوحي الأول، بـ القدس مركز الرسالات السماوية. وهذا الارتباط لم يكن عابرًا، بل هو تأكيد على قدسية القدس ومكانتها الدينية والسياسية في وجدان الأمة.

- من الناحية الدينية: الإسراء والمعراج يؤكد وحدة الرسالات، إذ صلى النبي بالأنبياء في المسجد الأقصى، رمزًا لوحدة التوحيد.

- من الناحية التاريخية: القدس ظلت عبر العصور ساحة لصراع الحق مع الباطل، وهي اليوم تواجه محاولات التهويد والتغييب.

- من الناحية السياسية: هذه الرحلة تعيد التأكيد أن القدس ليست قضية فلسطينية محلية، بل قضية الأمة كلها، فهي جزء من عقيدتها وكرامتها.

- البعد الإنساني: الرحمة في مواجهة الطغيان

الرسالة التي حملها النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن موجهة للمسلمين وحدهم، بل للبشرية جمعاء. فحين يتذكر المسلمون مولده وإسراءه ومعراجه، فإنهم يستحضرون رسالة الرحمة التي تناقض سياسات الاحتلال والعدوان والظلم.
اليوم، بينما يعاني أهل غزة والقدس وفلسطين من الحصار والقتل والاقتلاع، فإن ذكرى النبي تذكّر العالم بأن الإسلام دين رحمة، وأن القدس ليست حجارة بل روح، وليست جغرافيا فقط بل قضية عدل وإنسانية.

- دروس خالدة

1. الدين والتاريخ والسياسة متشابكة: لا يمكن فهم القدس بعيدًا عن الإسلام، ولا يمكن فصلها عن حاضر الأمة.

2. رحمة النبي منهج حياة: تُلزم الأمة بأن تواجه العنف بالعدل، والطغيان بالإنسانية.

3. القدس قلب الأمة: فهي القبلة الأولى ومسرى النبي، وما زالت حتى اليوم تمثل معيارًا لصدق الأمة في وحدتها.

- ختامًا

إن إحياء ذكرى المولد النبوي الشريف والإسراء والمعراج ليس طقسًا دينيًا فحسب، بل هو فعل وعي وتأكيد على أن رسالة الإسلام رحمة وعدل، وأن القدس ستبقى في وجدان الأمة رمزًا لوحدتها ومقياسًا لنهضتها. قال تعالى: ﴿هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدًا﴾ (الفتح: 28).

فالرسالة خالدة، والرحمة باقية، والقدس أمانة في أعناق الأمة إلى يوم الدين.