تتوالى مؤخرًا الاعترافات الأوروبية بالدولة الفلسطينية، مع إعلان كل من إيرلندا وإسبانيا والنرويج، ووجود إشارات واضحة من بريطانيا– أحد أبرز حلفاء إسرائيل تاريخيًا– إلى نيتها الاعتراف بدولة فلسطين في المستقبل القريب. هذه التحركات تعكس تحوّلًا متناميًا في المزاج السياسي الغربي، لكنها تظل، حتى اللحظة، خطوات رمزية لا تكتمل فعاليتها ما لم تُترجم إلى خطة سياسية شاملة وملزمة تُنهي الاحتلال وتعيد للشعب الفلسطيني حقوقه الوطنية.

- اعتراف لا يُسقط المسؤولية

مهما بلغت هذه الاعترافات من أهمية، فإنها لا تُعفي حكومات الدول الغربية، بما فيها تلك التي اعترفت أو ستعترف قريبًا بدولة فلسطين، من مسؤولياتها الأخلاقية والقانونية عمّا يجري في قطاع غزة، ولا سيما جريمة التجويع الممنهج والحصار الخانق المفروض من قبل الاحتلال الإسرائيلي، المدعوم سياسيًا وعسكريًا من قبل الولايات المتحدة وأغلب دول الاتحاد الأوروبي.

فهذه الدول، بحكم التزاماتها بالقانون الدولي الإنساني، مطالبة ليس فقط بإدانة الانتهاكات، بل بوقف كافة أشكال الدعم غير المباشر للاحتلال، وتوظيف أدواتها الدبلوماسية والقانونية لمنع استمرار جرائم الحرب والإبادة الجماعية بحق المدنيين.

- الضفة والقدس في قلب المعركة السياسية

التركيز على غزة لا يجب أن يُخفي الواقع المتفجّر في الضفة الغربية والقدس المحتلتين، حيث تتسارع مشاريع الضم والاستيطان، وتتصاعد اعتداءات المستوطنين تحت حماية جيش الاحتلال. إن أي اعتراف أوروبي بدولة فلسطين يفقد جوهره السياسي إن لم يشمل رفضًا صريحًا لمخططات الضم، ويطالب بحماية وحدة الأرض الفلسطينية من التفتت والانقسام الجغرافي الذي تسعى إليه إسرائيل.

وفي هذا السياق، من الضروري أن يترافق الاعتراف السياسي مع موقف أوروبي رسمي واضح يُحذّر إسرائيل من الاستمرار في سياسات المصادرة والاستيطان، ويضعها أمام مسؤولياتها بموجب القانون الدولي وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة، وعلى رأسها القرار 2334.

- اليوم التالي للحرب: ضرورة خطة سياسية كاملة

في ظل استمرار العدوان الإسرائيلي على غزة وغياب أفق سياسي حقيقي، يجب أن يُنظر إلى الاعتراف الأوروبي بفلسطين كجزء من خطة شاملة لليوم التالي للحرب، تقوم على المحاور التالية:

1. الحفاظ على الوحدة الجغرافية الفلسطينية: الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس ككيان سياسي واحد غير قابل للتقسيم، ورفض أية مشاريع تعزز الانفصال أو الحكم الذاتي المجتزأ.

2. وقف الاستيطان فورًا: من خلال عقوبات أوروبية واضحة على الشركات العاملة في المستوطنات، وفرض حظر على منتجاتها، تنفيذًا للقرارات الأممية والقانون الدولي.

3. دعم مؤتمر نيويورك الدولي: الذي دعت له الجمعية العامة للأمم المتحدة وتدعمه السعودية وفرنسا ومنظمة التحرير الفلسطينية، ليكون منصة دولية لدعم الحقوق الفلسطينية، وإقرار خطة دولية بتوافق أممي لإنهاء الاحتلال.

4. ترجمة الاعتراف إلى قرار في مجلس الأمن: ويشمل:

- الاعتراف الكامل بالدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران 1967، وعاصمتها القدس.

- حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني.

- وضع سقف زمني ملزم لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وانسحاب إسرائيل من جميع الأراضي الفلسطينية المحتلة.

- إطلاق مفاوضات نهائية تستند إلى مرجعيات القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، بما في ذلك حق عودة اللاجئين.

5. خطة اقتصادية عاجلة لإعادة إعمار غزة وإنعاش الاقتصاد الفلسطيني في الضفة الغربية، كجزء من دعم سيادة الدولة الفلسطينية وتمكينها.

6. وقف التهجير القسري والطوعي: من خلال مراقبة دولية، وتوثيق انتهاكات الاحتلال، ومنع محاولات تغيير التركيبة السكانية، لا سيما في القدس ومناطق "ج".

7. حماية الفلسطينيين من المستوطنين وجيش الاحتلال: عبر توفير مراقبة دولية فاعلة على الأرض، وفقًا لقرار الجمعية العامة "الوضع في فلسطين"، وتفعيل آليات الحماية الدولية.

- المسؤولية المشتركة: نحو نظام دولي لا يُكافئ المحتل

إن استمرار الاحتلال لعقود، والدعم الغربي غير المشروط لإسرائيل، كشف هشاشة النظام الدولي وعجزه عن حماية المبادئ التي أُسس عليها، وعلى رأسها ميثاق الأمم المتحدة. وآن الأوان لتغيير هذه المعادلة عبر موقف أوروبي موحد وجريء، لا يكتفي بالتنديد، بل يفرض الحلول، ويُلزم إسرائيل بالانسحاب والتوقف عن جرائمها.

الاعتراف بالدولة الفلسطينية لا يجب أن يكون تعبيرًا عن شعور بالذنب أو توازنًا أخلاقيًا، بل بداية فعلية نحو تفكيك منظومة الاحتلال والاستيطان، وإنهاء سياسة الإبادة البطيئة التي تتعرض لها غزة، والضم الزاحف الذي ينهش الضفة والقدس.

- الخلاصة: لا قيمة للاعتراف بدون إرادة إلزامية

نحن اليوم أمام لحظة فارقة: إما أن يُترجم الاعتراف الأوروبي بدولة فلسطين إلى إستراتيجية أممية متكاملة تنهي الاحتلال الإسرائيلي وتُؤسس لسلام عادل، وإما أن يبقى الاعتراف مجرد خطوة شكلية تُستخدم لتبييض المواقف، بينما تستمر إسرائيل في مشروعها التوسعي التصفوي.

المطلوب ليس فقط الاعتراف، بل الإرادة السياسية لإنفاذه، عبر قرارات ملزمة، وخطوات عملية، ودعم أممي شامل، يُعيد الحقوق لأصحابها، ويُنهي عقودًا من الظلم التاريخي للشعب الفلسطيني.