هناك حقيقة كانت واضحة كل الوقت، وهي أكثر وضوحًا اليوم بعد كل ما حدث منذ السابع من أكتوبر 2023. الحقيقة أن منطقة الشرق الأوسط لن تهدأ وتستقر إلا بإقامة دولة فلسطينية، ضمن اتفاق ثنائي فلسطيني إسرائيلي، وبغطاء دولي وإقليمي، وضمن تسوية إقليمية شاملة. بعد الاتفاق على هذه الحقيقة تأتي المرونة من كافة الأطراف لإخراج هذا الحل بحيث يتم ضمان تحقيق معادلة الأمن لإسرائيل وحق الشعب الفلسطيني في تقرير شؤونه بنفسه ضمن الإقليم الجغرافي الذي نص عليه اتفاق أوسلو: الضفة الغربية وقطاع غزة، وتنص عليه قرارات الشرعية الدولية والقانون الدولي.
لتحقيق هذه المعادلة تمكن استعارة كثير من الأفكار من عشرات المسودات لمشاريع ومبادرات وأفكار واتفاقات موقعة، لدينا أرشيف هائل من المشاريع. لكن قبل الخوض بأرشيف الحلول لا بد من التذكير بأن هناك اعترافًا متبادلاً بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، وأن الطرفين قد وقعا على اتفاق إعلان مبادئ، من بين ما تضمن، كما سبقت الإشارة إلى ضرورة احترام وحدة الإقليم الجغرافي، أي الضفة وقطاع غزة، وأن ما يخضع للتفاوض للاتفاق هي مسائل الحل النهائي: القدس المحتلة، والاستيطان والحدود، واللاجئون والمياه. وفي الإطار الأوسع تأتي المبادرة العربية لتقدم غطاء عربيًا وإسلاميًا للاتفاق الفلسطيني الإسرائيلي، لتحقيق معادلة دولة للفلسطينيين وأمن لإسرائيل وتعاون إقليمي شامل، وهناك نماذج اتفاقيات السلام الإسرائيلية مع دول عربية، مصر، والأردن، والدول الأخرى.
ما نحتاج إليه هو تجميع عناصر تقود إلى تنفيذ هذه المعادلة، ولدينا أيضًا في هذا المجال أرشيف سميك من المقترحات تعود جذور بعضها إلى الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين، عندما دارت حوارات بين قيادات يهودية صهيونية وقيادات فلسطينية وعربية تناولت فكرة الاتحاد الفيدرالي الإقليمي، وقبيل نكبة عام 1948، تناولت أوساط بريطانية وأميركية فكرة الدولة الفيدرالية الاتحادية بين العرب واليهود. هذه الأفكار طرحت قبل أن توجد إسرائيل الدولة، قد نستعير هذه الأفكار وتطويرها لاتحاد كونفيدرالي، وإذا ما تحقق السلام فعلاً على أساس حل الدولتين، يمكن تأسيس إتحاد إقليمي على شاكلة الإتحاد الأوروبي على سبيل المثال.
وخلال المحاولات لإيجاد حلول طرحت أفكار كثيرة مثل دولة ثنائية القومية، أو دولتين لشعبين. وبالطبع هناك مسودات المفاوضات التي جرت بين رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق يهود اولمرت والرئيس محمود عباس، خصوصًا بالبند المتعلق بتبادل الأراضي بالكم والكيف، ومشاريع أخرى كثيرة، في الأرشيف المذكور عناصر قد يكون من المفيد إعادة تجميعها لإنتاج حل دولتين يحقق بالفعل الأمن والاستقرار للجميع.
هناك فرصة حقيقية اليوم لتحقيق سلام شامل، بشرط ألا تستغرق النخب الإسرائيلية طويلاً بنشوة "النصر" وأن تواصل التنكر لحقوق الشعب الفلسطيني كما فعلت في كثير من اللحظات التاريخية المشابهة. فقد كانت هذه النخب تهرب باستمرار إلى الأمام من الاجابة على السؤال الفلسطيني. وبقيت تعتقد أن القوة هي الحل. وفي كل مرة كانت إسرائيل تجد نفسها تغرق أكثر في الازمة، التي تصبح كابوسًا لها.
السلام الشامل بات في متناول اليد، ولكن دون دولة فلسطينية لن يتحقق. والدولة الفلسطينية لن تكون دولة مارقة، إنما دولة عاقلة، تكون جزءًا من النظام الدولي والاقليمي، تحترم القانون الدولي وتؤمن بالتعاون البناء والعلاقات المتكافئة بين جميع الدول. وهناك إدراك أن الدولة الفلسطينية ستنشأ في إطار المعادلة التي تحدثت عنها المبادرة العربية، ونظام إقليمي يضمن الامن للجميع، ويقود لنهضة تنموية تشارك فيها جميع شعوب ودول المنطقة.
حتى الآن، لم يصدر من إسرائيل ما يشير إلى أنها تشارك الجميع هذه الأفكار، بل لا نزال نسمع نفس اللغة الايديولوجية الخشبية القديمة، والغريب أن إسرائيل قالت إنها "ستغير الشرق الأوسط"، لكنها تصر على ألا تتغير. وإذا لم تتغير إسرائيل فالشرق الأوسط لن يتغير أيضًا مهما حققت القوة العسكرية من إنجازات. الدول العربية منذ عقود تأقلمت مع المتغيرات، وتجاوزت مرحلة الرفض الطويلة، وطرحت المبادرة العربية. إسرائيل بالمقابل بقيت أسيرة الفكرة الصهيونية القديمة "أرض بلا شعب" رغم أن كل محاولاتها لتكريس هذه المقولة الاستعمارية فشلت.
اليوم هناك فرصة متاحة لإسرائيل؛ كي تطوي صفحة الايديولوجيا العقيمة، وأن تدمج نفسها في شرق أوسط جديد، ساهمت في صناعته. كما أن هناك فرصة سانحة لإسرائيل، هناك فرصة سانحة للشعب الفلسطيني، المهم أن نستطيع اغتنامها بواقعية وذكاء.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها