في مجتمعاتنا التي تعيش أزمات سياسية، اقتصادية، واجتماعية مستمرة، نجد أنفسنا أمام ظاهرتين متلازمتين لا يكاد يفصل بينهما إلا خيط رفيع من النفاق: الغوغائية والنخبوية المنافقة.

الغوغائيون لا يملكون من أدوات التفكير النقدي سوى الزعيق العاطفي والتبعية العمياء. هؤلاء، الذين يظهرون كأكثر الناس حماسة في الأزمات، يتنقلون من صرخة إلى صرخة، من رأي إلى رأي، دون أدنى محاولة لفهم الحقائق أو حتى لمجرد السؤال. كيف يمكن لشخص أن يصدق أن المظلوم قد يكون أحيانًا هو الظالم؟ كيف يعقل أن يتبنى الجميع نفس الخطاب المفعم بالكراهية أو العنف، دون أن يفكروا ولو لحظة في العواقب؟ ببساطة، هؤلاء ليسوا أكثر من قطيعٍ يساق إلى مذبحه، بعد أن عُبئت رؤوسهم بوعود فارغة، ونُفخت فيهم أيديولوجيات كاذبة.

لكن الأكثر خطرًا، بل الأكثر انخداعًا، هم المثقفون الذين يخدمون المنظومات القمعية والمصالح الشخصية أكثر مما يخدمون الحقيقة. المثقف الحقيقي، الذي يُفترض به أن يكون صوت الضمير وصاحب الرؤية الثاقبة، أصبح مجرد شريك في صناعة الأكاذيب. هم أول من يختبئ خلف شعارات اللامبالاة، وأول من يبرر الظلم باسم المصلحة العامة أو "الواقعية السياسية".

تلك "الواقعية" التي تشجع على التزلف للسلطة، وتضفي شرعية على الممارسات القمعية باسم الاستقرار، بينما الحقيقة تدمى في الزوايا المظلمة. أولئك الذين كانوا يُفترض بهم أن يكونوا حراسًا للحرية والتغيير أصبحوا الآن أدوات مساعدة للغوغاء على الانتقال من مرحلة الهتاف إلى مرحلة الخراب.

ما يثير الاستغراب أكثر هو التواطؤ الصريح بين غوغاء الشارع والمثقفين المهادنين. فبينما يندفع الغوغاء إلى شعارات لا يدركون مغزاها، يقوم المثقفون بحياكة القصص التي تروج لتلك الشعارات. المثقف الذي يبيع نفسه مقابل دقائق من الضوء الإعلامي أو حفنة من المنافع الخاصة، هو شخص تحول من قيد الأمة إلى عبء ثقيل عليها.

- حين يصبح النفاق استراتيجية البقاء

في هذا المناخ الموبوء بالانتهازية، يصبح النفاق هو العملة الرائجة. يُعطى المداحون مساحات واسعة، يُساقون بها إلى منصات إعلامية تُعزز الكذب والتضليل. أما النقد البناء، فيُقابل بالتهميش والمقاطعة. في هذا السياق، يُخلق مجتمع يعيش في ظل إيديولوجيات مغلوطة تُغذيها مصلحة السلطة والمنفعة الشخصية.

والسؤال: أين الخلاص؟.

إذا أردنا فعلاً الخلاص من هذه الحلقة المفرغة من النفاق والتزلف، علينا أن نرفع الصوت عاليًا، لا فقط في مواجهة الغوغاء الذين يسيرهم آخرون، بل أيضًا ضد النخب التي تعودت على السكوت والمساومة على المبادئ.

إن التصدي للغوغائية والمثقفين المنافقين لا يتطلب جيوشًا أو سلاحًا، بل يتطلب أن نحمل الحقيقة ونمضي بها دون خوف، فكلما تحدثنا بحقيقةٍ لا يرغب أحد في سماعها، زدنا من قوة الكلمة وصوت العقل.

إذا كان البعض يرغب في التزلف، ويبيع مواقفه مقابل لحظات من التقدير الزائف، فالمهمة تظل واضحة: المجتمع يحتاج إلى نقد بنّاء، إلى مثقفين لا يساومون على قيمهم، وإلى جماهير لا تساق كالغنم.