تُظهر السياسات الأميركية والإسرائيلية في الشرق الأوسط نمطًا متناقضًا ظاهريًا، لكنه يعكس منطقًا سياسيًا باردًا ومقصودًا، مهاجمة الخصوم عسكريًا وسياسيًا من جهة، ثم التفاوض معهم والاعتراف بفاعليتهم من جهة أخرى، مع تجاهل كامل للشرعيات الوطنية المعترف بها دوليًا.
فهل نحن أمام تلاعب بالقيم والمبادئ، أم إعادة إنتاج للنفوذ وفق معايير جديدة لا تعترف بالشرعية بقدر ما تحتكم للواقع على الأرض؟.

في قطاع غزة، ورغم تصنيف حماس كمنظمة إرهابية من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، لا تزال هذه القوى تتفاوض معها بشأن التهدئة وتبادل الأسرى، بشكلٍّ مباشر أو عبر وسطاء كقطر ومصر والأمم المتحدة، في حين تُقصى السلطة الفلسطينية، الممثل الرسمي، عن هذه الملفات الحساسة.
منذ ما بعد حرب 2014، باتت إسرائيل تتعامل مع حماس باعتبارها الطرف الوحيد القادر على فرض التهدئة أو إشعالها في قطاع غزة.
المشهد ذاته يتكرر في اليمن، حيث تُبقي واشنطن على تواصل غير مباشر مع جماعة الحوثي رغم تصنيفها على لوائح الإرهاب واستمرار العمليات العسكرية ضدها.

في المقابل، تتجاهل الولايات المتحدة الحكومة اليمنية الشرعية التي تسيطر على غالبية الأراضي اليمنية.
خلال عام 2023، كُشف عن محادثات أميركية-حوثية جرت في سلطنة عُمان تتعلق بالأمن البحري وتهدئة البحر الأحمر، يعكس هذا النمط إدراكًا أميركيًا بأن من يمتلك القوة على الأرض هو من يملك مفتاح التفاوض، بصرف النظر عن شرعيته السياسية أو القانونية.
أما في الحالة الإيرانية، فإن التناقض يبدو أكثر عمقًا. فبينما تتعرض طهران لضربات مباشرة تستهدف منشآتها النووية وقياداتها العسكرية، لم تُظهر واشنطن يومًا نية لإسقاط النظام، بل حافظت على قناة تفاوض مفتوحة معه، وشاركت في محادثات نووية طويلة الأمد رغم اغتيال قاسم سليماني والعقوبات القاسية، يبدو أن واشنطن تفضل بقاء النظام الحالي، باعتباره خصمًا مألوفًا يمكن احتواؤه أفضل من العمل على  سقوطه.

هذا النمط المتكرر من تجاوز "الشرعيات المعترف بها" لصالح "قوى الأمر الواقع" من قبل الولايات المتحدة يعكس تحولاً استراتيجيًا في العقل الأميركي والإسرائيلي، يقوم على مبدأ: لا تمثيل سياسي بلا قدرة ميدانية، وهو ما يعني إعادة صياغة مفهوم الشراكة والتفاوض في المنطقة وفق ميزان الفاعلية لا وفق مبدأ الشرعية، والسلاح لا الدبلوماسية.
التداعيات المترتبة على هذا التحول خطيرة، فهي أولاً تُضعف المؤسسات الوطنية وتُقوض فكرة الدولة الحديثة، وثانيًا تُكافئ الجماعات المسلحة التي تفرض نفسها بالقوة، وثالثًا تُعيد تشكيل النظام الإقليمي على أساس النفوذ الواقعي لا على أساس  السيادة القانونية، مما يفتح الباب أمام مشاريع تفكيك جديدة قد تُدار خارجيًا دون حضور عربي فاعل ومؤثر.
الخطر الحقيقي لا يكمن فقط في السلوك الأميركي-الإسرائيلي، بل في غياب الصوت العربي الرسمي، والصمت المطبق أمام هذا التجاوز المنهجي للشرعيات الرسمية، لا تحذير من انهيار التوازنات، ولا رؤية استراتيجية مضادة، ولا حتى اعتراف بأن ما يجري يهدد مستقبل الكيانات الوطنية.
إننا أمام لحظة فاصلة تستدعي مراجعة شاملة، فإما أن تستعيد العواصم العربية دورها في صياغة التوازنات، أو أن تظل الشرعيات تُستبدل بأمراء الحرب والمليشيات، والخشية كل الخشية، أن نصحو يومًا فنجد أن الشرق الأوسط الجديد قد تشكّل من دوننا، وعلى حسابنا كدول عربية.
السؤال، هل نملك القدرة كعرب وكنظام عربي على مواجهة التحديات التي ستنجم عن هذا السلوك الأميركي في التعاطي مع قضايا وأزمات المنطقة؟.