في غزة، يأتي الموت من الجو والبر، ويلاحق الجائعين، فيما تتكسّر الوعود والاتفاقات على طاولة مفاوضات راكدة، لا تتحرك رغم نزيف الوقت والدماء.

وفي الضفة الغربية، تتصاعد هجمات المستوطنين تحت أنظار جنود الاحتلال. وبينما يتواصل القمع، تتكشف صفقة سياسية إقليمية تُطرح بصيغة مغرية، دولة فلسطينية مقابل المزيد من التطبيع.

لتحليل هذه التطورات وتفكيك أبعادها، استضافت الإعلامية زينب أبو ضاهر، عبر فضائية فلسطيننا، أستاذة العلوم السياسية الدكتورة أريج جبر، للحديث عن دلالات هذه التطورات وانعكاساتها على القضية الفلسطينية، في ظل غياب العدالة واستمرار الاحتلال.

بدايةً أكدت جبر أن ما يجري في قطاع غزة يكشف بوضوح وجود استهداف ممنهج ومتعدد الأبعاد سياسيًا، عسكريًا، إقليميًا ودوليًا للقضية الفلسطينية.

وأضافت أن المقارنة بين وقف حرب استمرت 12 يومًا بين قوتين إقليميتين، واستمرار المجازر في غزة منذ قرابة اثنين وعشرين شهرًا، تُثبت أن المستهدف ليس غزة وحدها، بل القضية الفلسطينية برمتها، بما في ذلك الضفة الغربية.

وشددت على أن ما نشهده في غزة يتعدى كونه عدوانًا، ليصبح حقل تجارب للأسلحة الحديثة والذكاء الاصطناعي، وابتكارًا لأساليب القتل والتجويع والترويع، وسط صمت دولي من المنظمات الحقوقية والأممية والإنسانية، وكأنه اتفاق ضمني على استمرار المجازر.

ورأت أن الهدف من هذا الصمت هو دفع الفلسطينيين نحو الاستسلام، والقبول بالهجرة أو الاعتراف بيهودية الدولة، بما يخدم السردية الصهيونية بأن عام 2025 هو عام الحسم.

ورغم هذا الواقع الدموي، أكدت جبر أن الشعب الفلسطيني لا يزال يواجه كل ذلك بثبات استثنائي، عقائدي ووجودي، متمسكًا بحقه في دولة فلسطينية.

قالت جبر: "إن الجندي الإسرائيلي، في الحالة الفلسطينية، وخاصة في قطاع غزة، لا يحتاج إلى أمر مباشر ليمارس عنفه؛ فهو يعتبر ما يقوم به وظيفة مدفوعة، يريد من خلالها إثبات ولائه مقابل ما يتلقاه من دعم مادي".

وأوضحت أن ما نشهده اليوم هو مزيج من الأوامر السياسية والعسكرية، ومن الحقد الشخصي، الهدف منها كسر صمود أبناء شعبنا عبر نشر هيبة الموت، وتحويل لقمة العيش إلى طريق للموت.

ولفتت إلى أن كيس الطحين، الذي من المفترض أن يرمز للحياة، أصبح وسيلة لتنفيذ مجازر جماعية، في مشهد يختصر المنهجية الجديدة: قتل شعبنا بأقل كلفة، وتحت غطاء التدافع أو المساعدات، لتبرير عمليات القتل المتعمدة.

وأكدت جبر أن الموت أصبح هدفًا بحد ذاته بالنسبة للاحتلال، وأن ارتفاع عدد الشهداء يُقدَّم كإنجاز في إطار مشروع إفراغ غزة من أهلها، سواء بالموت، أو بالتهجير، أو بدفعهم للهرب بحثًا عن الحد الأدنى من شروط الحياة.

قالت جبر: "إن الحديث المتجدد عن توسيع اتفاقيات إبراهام، مقابل وعود بإقامة دولة فلسطينية كما يروّج نتنياهو وترامب، ليس إلا فصلًا جديدًا من مسلسل التطبيع، بدأ منذ ديسمبر الماضي، خاصة بعد سقوط نظام بشار الأسد".

وأوضحت أن النظام السوري الجديد يسعى لضمان استقراره السياسي عبر التطبيع، وأن استقرار سوريا لن يتم، وفق ما يُروج له، إلا من خلال اتفاقات سياسية–إقليمية، تبدأ بتفاهمات بين الولايات المتحدة وتركيا، وتمتد إلى تنازلات سورية ضمنية عن الجولان، بما في ذلك إسقاط وصف المحتل عنه، مقابل إعادة الإعمار.

وفي الخليج، أشارت إلى أن زيارة ترامب في أيار الماضي كانت بمثابة ترويج لصفقة إقليمية شاملة، تهدف إلى إدماج المنطقة كلها في مشروع صهيوني موحّد، لكن حتى الآن، لا يزال هناك وعي قيادي عربي، خاصة لدى السعودية، التي تؤكد أنه لا تطبيع دون قيام دولة فلسطينية تضمن الحقوق.

وأضافت أن تسويق التطبيع بصيغته الحالية، وبسياق يخدم المشروع الصهيوني، هو محاولة لفرض الهيمنة وتصفية القضية الفلسطينية، لكن هذا الطرح لا يلقى إجماعًا، إذ ما زالت الدول الخليجية تؤكد دعمها للحق الفلسطيني ولقطاع غزة.

وفي المقابل، شددت جبر على ضرورة الحفاظ على متانة الجبهة العربية، وعدم الوقوع في فخ تفكيكها، خاصة في ظل وجود خطر حقيقي يتمثل في مشروع تهجير أبناء شعبنا، لا سيما من قطاع غزة، تحت غطاء إنساني أو سياسي.

وقالت: "إن المقترحات المطروحة تتضمن تهجيرًا ممنهجًا، وتحويل الفلسطيني إلى لاجئ جديد، وهذا ما ترفضه دول عربية مثل الأردن ومصر، اللتان تصران على وقف التهجير، وتدفعان باتجاه وقف إطلاق النار، ثم عقد مؤتمر للتعافي وإعادة الإعمار، دعمًا لصمود الشعب الفلسطيني".

وأكدت جبر أن مقابل تصاعد وتيرة التطبيع، هناك صحوة عربية بدأت تدرك أن مصدر عدم الاستقرار في المنطقة ليس الشعب الفلسطيني، بل الاحتلال الإسرائيلي ومخططاته.

واعتبرت أن الكيان المحتل أظهر نواياه بوضوح حين تفاخر باستفراد الدول العربية واحدة تلو الأخرى، مما أوجد وعيًا سياسيًا جديدًا بأن الاحتلال لا يكتفي بفلسطين أو سوريا أو لبنان، بل يخطط لإعادة تشكيل كامل للمنطقة، وفق مشروع إسرائيل الكبرى، في إطار فوضى إقليمية واسعة.

مؤكدةً على أن فلسطين ليست النهاية، بل البداية، وأن المشروع الصهيوني يمتد بجذوره في عمق العالم العربي.

قالت جبر: "إن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب لم يحارب المؤتمر الدولي للسلام علنًا، بل عمل على إفشاله في الخفاء، من خلال ممارسة ضغوط مكثفة على الدول الأوروبية والعربية".

وأوضحت أن ترامب منح الضوء الأخضر للاحتلال الإسرائيلي لمهاجمة إيران قبل أسبوع من موعد المؤتمر، بهدف تشتيت الأنظار وخلق أزمات بديلة تُجهض انعقاد المؤتمر. كما استغل المواجهة الإيرانية–الإسرائيلية لكسر حالة العزلة التي كان يعيشها الكيان المحتل في علاقاته مع أوروبا، خاصة بعد مطالبة بعض الدول الأوروبية بتجميد اتفاقية الشراكة معه، بسبب الجرائم المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني.

وأضافت أن ما حدث فعليًا هو انقلاب في السردية؛ إذ أعاد ترامب تحريك التعاطف الأوروبي مع الكيان، عبر تصويره ككيان مهدد وجوديًا، مما دفع بعض الدول لتأييده بدلًا من محاسبته.

وفي المقابل، تعرضت فرنسا لضغوط مشابهة، رغم أنها كانت قد بدأت بطرح مبادرات تؤيد الاعتراف بدولة فلسطينية كاملة العضوية في الأمم المتحدة. لكن سرعان ما اتُّهمت بمعاداة السامية، لمجرد تبنيها خطابًا داعمًا للحقوق الفلسطينية.

وأشارت جبر إلى أن كل ذلك يعكس إعلاءً واضحًا لمصالح الاحتلال، ومحاولة لتحويل التطبيع إلى شرط مسبق للسلام، لا إلى نتيجة له، معتبرة أن الولايات المتحدة حين شعرت بأنها قد تُحمَّل مسؤولية عرقلة عملية السلام، بدأت بافتعال عراقيل جديدة لإفشال المسار.

لكنها أكدت في المقابل، أن هناك فرصًا حقيقية أمام المجموعة العربية والإسلامية للتحرك، شريطة تجاوز الدور الأمريكي المتحيز، وعدم الاكتفاء باللجوء إلى مجلس الأمن الذي يعطّله الفيتو الأميركي باستمرار.

كما شددت على أن الحديث عن التطبيع مقابل قيام دولة فلسطينية ليس إلا محاولة لتصفية القضية، معتبرة أن التطبيع في هذا السياق لا يخدم الشعب الفلسطيني.

وختمت مؤكدةً أن ما جرى خلال المواجهة الإسرائيلية–الإيرانية الأخيرة كان محاولة لتعريف الناس تدريجيًا بأن الأماكن المقدسة باتت تحت السيطرة الإسرائيلية، وكأن الأمر أصبح طبيعيًا، في سياق مدروس ومخطط له لصالح الاحتلال.