بقلم: سامي أبو سالم

وسط شارع النصر بمدينة غزة، وصل بائع الكتب محمد ماضي، على دراجة هوائية ثلاثية العجلات بصندوق أمامي متخم بكتب قديمة وجديدة، رتبها بعناية على الأرض تحت شمس حزيران اللاهبة، وسط أطنان من الغبار المتطاير.

تجمّع عدد من المشترين، بعضهم يقلب صفحات كتب، وآخرون يقرأون العناوين ويواصلون سيرهم، وآخرون لم يلتفتوا البتة، بل تذمروا من "عرقلة الطريق"، التي يسببها ماضي.

قال ماضي (64 عامًا): إنه يجد بعض المشترين، مقارنة بما قبل عدوان الاحتلال الإسرائيلي في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 على قطاع غزة، "لقد انخفض عدد المشترين بنسبة 90%، فمنهم من استُشهد أو أصيب، أو نزح قسرًا، وعمومًا المواطنون منشغلون بالموت والجوع وتدمير بيوتهم".

وقتلت قوات الاحتلال أكثر من 55 ألف مواطن، فيما أصيب أكثر من 130 ألفًا، منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023.

وأشار ماضي إلى أن من يشتري منه، هم مدمنو القراءة فقط، وبعض المسجلين في برامج الدراسات العليا، وربما آباء لشراء قصص لأطفالهم.

وأضاف: "الناس كانوا يقرأون كتب السياسة والدين، ويبحثون عن كتب علمية وأكاديمية، أما الآن فمعظمهم يبحث عن كتب خاصة بالماجستير، أو كتب أدبية للهروب من الواقع".

وأشار ماضي، الذي كان يعمل مدرسًا للمواد الاجتماعية، إلى أنه يشتري كتبًا من مواطنين قراء وأكاديميين يرغبون في بيعها لحاجتهم المالية إلى شراء طعام، أو أدوية، أو جمع مبلغ من المال، تحضيرًا لسفر متوقع، في حال فُتحت معابر قطاع غزة.

وهناك مصدر آخر للكتب، فيشتريها من مواطنين يحصلون على كتب من تحت ركام المكتبات العامة المدمرة، أو ركام المنازل، "الممزق منها يستخدمونه في إشعال النار والطبخ، والسليم منها يبيعونه لشراء مستلزمات".

ودمرت قوات الاحتلال المكتبات العامة، والمراكز الثقافية، ومكتبات الجامعات، والمدارس، وأغلبية المكتبات الخاصة، خلال حرب الإبادة المستمرة.

وقال ماضي: إن المشترين يفضلون الشراء منه، لأن أسعار كتبه رخيصة، فما تبقى من المكتبات تبيع الكتاب بمتوسط 50 شيقلاً، أما هو فيبيعه بمبلغ من 5 إلى 10 شواقل.

ماجد سعد لم ينتظر كي ينتهي ماضي من ترتيب الكتب، فالتقط أحدها من صندوق الدراجة وقلب صفحاته، قبل أن يستأذن، ليجلس تحت ظل جدار قريب ليقرأه.

وقال سعد (52 عامًا): إنه التقط كتابًا يتناول الحركة الصهيونية، ويرغب في شراء كل الكتب لكن لا يستطيع بسبب شح المال والجوع، "الأكل أهم، لا صوت يعلو فوق صوت المعدة".

وأشار سعد، الذي يقطن "مؤقتًا" في خيمة وسط شارع مجاور، إلى أنه يأتي أحيانًا يستأذن البائع، ويلتقط كتابًا، ويقرأه، تحت ظل حائط أمام ناظري البائع، ثم يعيده، قبل أن يرجع إلى الخيمة.

ويضيف سعد الذي كان يعمل موظفًا في السلطة الفلسطينية قبل الحرب: "روتيني أصبح شبه يومي، أعبئ غالونات الماء صباحًا، وأشعل النار لإعداد ما توفر من بقايا طعام، أبحث عن أي مساعدة أو كيلوغرام طحين وأقضي باقي الوقت أقرأ هنا".

وتعيش غزة في مجاعة حادة بعد أن منعت قوات الاحتلال دخول أي نوع من المساعدات الغذائية أو الطبية أو غيرها منذ الأول من آذار/مارس الماضي.

وأصر سعد أن يحدث عن بيته الكبير في حي الشجاعية شرق غزة، وعن مكتبته الخاصة ومئات الكتب التي كان يقتنيها، السياسية والتاريخية والدينة والتراجم، ذاكرًا أسماء أدباء عالميين، (وكأنه يقول أنا لست ما أنا عليه).

فتاتان يانعتان وقفتا تسألان البائع عن كتاب بعينه بعد أن تفحصتا العناوين، فلم تجدا ما رغبتا. وقالت سجى الشيخ أحمد (18 عامًا): إنها تبحث عن كتب علم النفس لأنها ترغب في أن تكون طبيبة نفسية.

وتضيف سجى: "الاحتلال حرمنا من المدارس ومن تقديم امتحانات الثانوية العامة، لكن هذا لا يعني ألا نقرأ، فالمدارس شيء والمعرفة شيء".

ودمرت قوات الاحتلال في غزة 1661 منشأة تعليمية منها زهاء 1000 جامعة ومدرسة وروضة أطفال بشكل كلي خلال عدوانها الحالي. وللعام الثاني، يُحرم طلبة الثانوية العامة بغزة من تقديم امتحاناتهم النهائية، وكذلك تتوقف الحياة الأكاديمية بشكل كامل في القطاع.

ويحاول طلبة مدارس وجامعات بغزة متابعة حياتهم الأكاديمية عبر تقنية "التعليم الإلكتروني" بمواصلة دروسهم عبر تطبيقات على الهواتف الذكية، لكن يعرقلها انقطاع التيار الكهربائي وتذبذب خدمة الإنترنت.

ويقول جمال سلمان (37 عامًا)، الذي وقف قليلاً ليلقي نظرة سريعة على الكتب ثم واصل سيره: إنه لن يشتري لأنه منشغل في النهار، أما القراءة فعادة تكون مساءً بلا إضاءة ولا كهرباء، فيضطر إلى قراءة كتبه المفضلة عبر الهاتف بعد تنزيلها من الشبكة العنكبوتية.

في طرف طابور الكتب، نثر البائع مجموعة من قصص المغامرات القديمة الخاصة بالفتية، جلس عماد الجبري ينفض الغبار عن عدد منها وقلب صفحاتها.

وقال الجبري: إنه يشتريها لأطفاله، ليخلق عندهم عادة القراءة ويحافظ على عقولهم نشطة، مضيفًا "يقضي الأولاد يومهم في تعبئة غالونات الماء وتفاصيل الحرب الأخرى لا حياة دراسية، فأنا أحاول أن أحافظ على عقولهم".

على دراجته الهوائية، وقف عبد الحليم العجوري يتفحص عناوين الكتب، تركها، وقال قبل أن يرحل: أبحث عن كتب خاصة بإدارة المؤسسات التجارية، فقد أنهيت دراسة المحاسبة وأرغب في تطوير مهاراتي، لذلك أبحث عن كتب في الإدارة لملء وقتي، فلا عمل ولا جامعات".