بعد الضربة الأميركية للمواقع النووية الإيرانية تدخل الحرب مرحلة جديدة، ولكن كل شيء يعتمد الآن على الرد الإيراني على الضربات الأميركية وحجمه  وبغض النظر فإن الحرب عاجلاً أم آجلاً. فإننا سنكون بالتأكيد أمام شرق أوسط مختلف، ليس كالذي ألفناه منذ سايكس بيكو، أو على الأقل منذ أن أصبحت إسرائيل دولة في المنطقة، في كل الحروب السابقة، كانت إسرائيل تحارب من أجل أن تفرض وجودها، ونيل الاعتراف والتمتع بالشرعية والقبول في الشرق الأوسط، وبدأت تقطف ثمار ذلك منذ أن وقعت أول اتفاق سلام مع الدولة التي خاضت معها أربعة حروب، والمقصود هنا مصر، التي كانت الند العربي، وبالتالي هي أحد أهم مصادر الشرعية في المحيط العربي. ومنذ حرب العام 1973، كل الحروب اللاحقة، وحتى الحرب الحالية التي أشعلتها إسرائيل منذ طوفان حماس. في السابع من أكتوبر 2023، كل الحروب بين تلك وهذه كانت حروبًا لإثبات فائض القوة، وفرض إرادتها في المنطقة.

أما الحرب الحالية فهي أمر مختلف، إذ هي ليست بهدف القبول، ولا بهدف فرض الإرادة، إنما هذه المرة بهدف أن تكون الطرف المقرر في المنطقة وبلا منازع. هذا ما جلبته حماس للمنطقة بطوفانها، أو أنها قدمت له المبرر والاطلاع، وربما سيكتب المؤرخون الإسرائيليون في يوم ما في المستقبل عن مدى الخدمة التي قدمتها حماس لإسرائيل.

على أية حال ليس هذا هو موضوعنا، وليس الشكل الذي سيكون عليه الشرق الأوسط بعد الحرب، ولكن الموضوع يتعلق بإسرائيل وكيف ستكون بعد انتهاء الحرب، وخصوصًا إذا ما حققت كل ما تريد؟ وإزالة كل أشكال التهديد بعد القضاء على محور المقاومة وزعيمته إيران؟ كيف ستتصرف؟ هل سترى إنجازاتها بعين القوة والعنجهية أم بعين العقل، أم تفرض نفسها شرطيًا أم تتصرف بعين التعاون؟.

كل شكل ستختاره إسرائيل لنفسها سيكون له تبعات وتداعيات مختلفة في تأثيرها على طبيعة الشرق الأوسط الجديد، وعلى الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية. والسؤال كيف ستستثمر إسرائيل إنجازاتها العسكرية سياسيًا؟.

ولكن قبل الإجابة على هذا السؤال لا بد من تسجيل بعض الملاحظات، أهمها:

- أولاً: إن كل ما كان يمثل ضرورة لإسرائيل، مثل اتفاقيات السلام، وحتى اتفاقيات أبراهام قد لا يكون كذلك بعد الحرب، أقلها ليس بنفس الدرجة من الأهمية والسرور.

- ثانيًا: إن ما كان يرضي إسرائيل على صعيد التعاون الاقتصادي قبل الحرب قد لا يرضيها بعد الحرب، وستحاول فرض هيمنتها الاقتصادية بعد أن تفرض هيمنتها العسكرية وتفوقها التكنولوجي.

- ثالثًا: حاجة إسرائيل للعرب التي كانت قبل الحرب، حيث كانت إيران، والتهديد الإيراني تتطلب تحالفات وعلاقات، قد لا تكون بعد الحرب وإنهاء التهديدات الإيرانية بنفس الدرجة من الأهمية.

نعود للسؤال كيف ستستثمر إسرائيل انجازاتها العسكرية، وبالتحديد مع الموضوع الفلسطيني؟.

إذا بقيت إسرائيل تفكر بنفس الطريقة التي عليها حكومتها الآن، بمعنى أن تترك اليمين المتطرف يتحكم بقراراتها وتوجهاتها، فإن كل شيء يمكن أن يحدث، التهجير القسري في قطاع غزة، وحتى إعادة احتلال القطاع وتنفيذ سيناريو التهجير القسري.

أما الشكل الآخر هو أن تشعر إسرائيل أنها لم تعد بحاجة لوجهها المتشدد والمتطرف، ويجري تغيير كبير على الخارطة الحزبية في إسرائيل، وتظهر إسرائيل العقلانية، التي تدرك أن إنجازاتها لن تغير الحقائق التاريخية والجيوسياسية الثابتة في الشرق الأوسط، وتقبل التعايش معها باعتبارها من يجلب الاستقرار بعيد المدى. التغير الذي سيشهده الشرق الأوسط، بالضرورة أن ينعكس على داخل إسرائيل، فما كان مفيدًا للحرب ليس بالضرورة هو المفيد لما بعد الحرب، وهذا يعتمد بدرجة كبيرة كيف ستفكر النخب في إسرائيل، وإذا ما كانت ستختار الاستمرار بمنطق القوة والغطرسة، أو أن تختار الواقعية.

المسألة الأخرى التي على إسرائيل أخذها بالاعتبار، وهي بالتأكيد تدركها، أن الشرق الأوسط، منطقة متحركة، لا تقبل تغير التوازنات لفترات طويلة، ليس فقط بفعل الأطراف المحلية، إنما بسبب صراع المصالح بين القوى الدولية الكبرى. دروس الشرق الأوسط علمتنا حقيقية واحدة أن واقع اليوم لن يكون غدًا، وأن الثابت الوحيد فيه هي العناصر الأصيلة المكونة له.

والآن، سؤال إسرائيل بالضرورة أن يطرح بالمقابل سؤال فلسطين، سؤالنا نحن، علينا أن نلاحظ المتغيرات بدقة، ونتعامل معها بذكاء، ونقدم للعالم رؤية واقعية، تنطلق من معادلة، إن الشعب الفلسطيني هو حقيقة ثابتة في المنطقة، وربما هي من الحقائق الأقوى، وأن تجاهل هذه الحقيقة مرة أخرى سيسمح لدورة أخرى من العنف ربما ليس راهنًا، ولكن بالتأكيد سيحصل. هناك حاجة لأقلمة الوضع الفلسطيني مع الواقع الجديد، حتى على صعيد البنية السياسية التي استمرت لعقود، لا مكان في المستقبل للفصائلية، وإنما لنظام سياسي عصري، يتوافق مع طروحات إبداعية من أجل أن يكون هناك سلام حقيقي وراسخ بين جميع مكونات الشرق الأوسط.