تسعى العواصم الأوروبية، وعلى رأسها باريس وبرلين ولندن، إلى إحياء الدبلوماسية في الشرق الأوسط عبر مبادرة لعقد لقاء تفاوضي في جنيف، يجمع ممثلين عن إيران وعدد من الدول الأوروبية، في محاولة جادة لاحتواء التصعيد العسكري المتصاعد بين طهران وتل أبيب. تأتي هذه المبادرة في ظل مرحلة حرجة، إذ لا تزال الضربات المتبادلة مستمرة، وتنذر بانفجار إقليمي واسع قد تتجاوز تداعياته حدود الشرق الأوسط إلى الأمن الدولي برمّته.

تقوم المبادرة الأوروبية على ثلاث ركائز: أولًا، إعادة تفعيل المسار السياسي عبر مفاوضات مباشرة مع إيران؛ ثانيًا، الحد من التصعيد العسكري المستمر؛ وثالثًا، إدراج برنامج إيران النووي والباليستي ضمن إطار تفاوضي شامل. وقد أكدت الدول الأوروبية أنها لا تسعى إلى تسوية مؤقتة بقدر ما تطمح إلى بناء أرضية صلبة لاحتواء الأزمة، وإبعاد شبح الحرب المفتوحة التي لن يكون أحد بمنأى عن تداعياتها.

في المقابل، اشترطت طهران، للمشاركة الجادة في هذه المحادثات، وقف الهجمات الإسرائيلية بشكل فوري، ورفضت أي مساعٍ لتجميد برنامجها النووي ما لم يتم الاعتراف بحقها في الاستخدام السلمي للطاقة النووية، ورفع العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها. وتصرّ إيران على أن إسرائيل، بدعم ضمني من الولايات المتحدة، تسعى لفرض معادلة جديدة بالقوة، وهو ما تعتبره تهديدًا لسيادتها الإقليمية.

أما واشنطن، وعلى الرغم من إشارات متناقضة، فقد منحت الأوروبيين "نافذة دبلوماسية" لا تتجاوز أسبوعين، حسبما ذكرت صحيفة فايننشال تايمز، قبل أن "تُضطر" لدعم ردّ عسكري شامل في حال لم تحقق جنيف أي تقدّم يُذكر. ويُفهم من ذلك أن واشنطن تُعطي الفرصة للمسار الدبلوماسي لكنها لا تراهن عليه طويلاً. أما موسكو، فرغم تحفظها الرسمي، أبدت دعمًا مبدئيًا لأي جهد يضمن خفض التصعيد، خاصة أنها ترفض أي تدخل عسكري واسع في المنطقة قد يصب في مصلحة خصومها الغربيين. أما بكين، فدعمت المبادرة الأوروبية كمسار بديل، لكنها لم تُظهر انخراطًا فعّالًا بعد، مكتفية بالدعوة إلى "الحوار المتوازن".

يكتسب لقاء جنيف أهمية استثنائية ليس فقط كجهد وساطة ظرفي، بل كاختبار فعلي لمدى قدرة أوروبا على ملء الفراغ السياسي الناتج عن انشغال القوى الكبرى أو ارتهانها لحسابات أمنية وانتخابية داخلية. كما يُشكل فرصة نادرة لإعادة تعريف الدور الأوروبي في إدارة الصراعات الإقليمية الكبرى.

في المحصلة، قد لا يكون جنيف هو الحل، لكنه فرصة لتأجيل الإنفجار. ويبقى نجاحه مرهونًا بجدية الأطراف، وتوازن الطروحات، ووجود إرادة دولية تتجاوز سياسة حافة الهاوية، نحو منطق التوازن والمصالح المشتركة. فالحرب، كما التاريخ يُعلّمنا، تبدأ بكلمة وتنتهي بكارثة. أما السلام، فلا بد له من صوتٍ يجرؤ على النطق به أولاً.