بقلم: سامي أبو سالم

في حي الكرامة شمال غزة، يتجمع عشرات الآلاف من المواطنين الجائعين بشكل شبه يومي بانتظار مساعدات إنسانية من المفترض أن تصل إليهم، فيعود بعضهم شهيدًا محمولاً على الأكتاف، أو حاملاً كيس طحين، وربما خالي الوفاض، أو ستختفي آثاره ليسجل ضمن "مفقودي الحرب".

يوميًا، يتوجه المواطنون في قطاع غزة إلى ثلاث نقاط توزيع في قطاع غزة، في رفح جنوبًا، وقرب مفرق الشهداء، في الوسط، وجباليا، شمالاً، وهي الأماكن التي حددتها قوات الاحتلال الإسرائيلي، والتي تقتل فيها العشرات بشكل شبه يومي.

وقتل جيش الاحتلال زهاء 450 مواطنًا من منتظري المساعدات شمال ووسط وجنوب القطاع، وفق مصادر طبية، منذ بدء الدخول المحدود لبعض المساعدات أواخر أيار/مايو الماضي.

وأمس، تمكنت الطواقم المختصة من انتشال جثامين 15 شهيدًا لمواطنين كانوا بانتظار المساعدات من شارع الواحة في بيت لاهيا شمال القطاع، فيما جثامين أكثر من عشرين شهيدًا قصفتهم قوات الاحتلال التي قتلت أيضًا 50 جائعًا كانوا ينتظرون الطعام، ما زالوا في منطقة "التحلية" في مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة.

آباء، وأمهات، خريجون جامعيون، وطلاب، وعمال، وموظفون، يصلون نقطة الانتظار مشيًا أو على "كارات" تجرها دواب أو يتسلقون الشاحنات ليبيتوا ليلتهم هناك.

ورغم خطر الموت برصاص الاحتلال، يفتش هؤلاء الأرض بجوار حي الكرامة، غير مكترثين بأصوات الانفجارات الضخمة، يتحسسون الأرض في الظلام بحثًا عن بقعة خالية من الحصى، تتسع لأبدانهم يمددون عليها بحثًا عن قسط من الراحة.

وقال غسان زيادة (46 عامًا)، أحد الذين تسلقوا شاحنة نقل ليصل إلى منطقة الكرامة، إنه يعمل مدرسًا للتربية الإسلامية واللغة العربية، مضيفًا بأنه يعلم التلاميذ مبادئ أساسية هي عدم الكذب وعدم السرقة وعدم التعدي على حقوق الآخرين، لكنه مضطر أن يأتي إلى منطقة الكرامة فقط بدافع الجوع، فلا خيار آخر أمامه".

وأكد زيادة، وهو أب لستة أطفال، أنه لو لم يفعل ذلك سيموت أطفاله جوعًا، مشيرًا إلى أن هذا السلوك كان منوطًا باللصوص وقطاع الطرق، لكن الآن يضطر جميع المواطنين أن يسلكوه بسبب الجوع.

وحول الخطر قال زيادة: إنها "مهمة انتحارية" دافعها الجوع، هناك خطر الموت قصفًا أو موت أطفالي جوعًا "وحسبك من أمرين أحلاهما مر".

وقالت إحدى الناس اللوات خرجن مساءً في انتظار المساعدات: إنها مضطرة فوالد الأطفال أصيب وبات قعيدًا منذ بداية العدوان ولا معيل لأطفالها الأربعة.

وتضيف: "خروجنا كنساء معيب جدًا ففيه احتكاك بالرجال ليلاً وهذه ليست من عاداتنا، لكن لا مساعدات توزع من المؤسسات الدولية منذ ثلاثة أشهر ولا خيار آخر".

أرخى الليل سدوله فأشعل بعضهم نارًا لطرد البعوض، وفي ذلك يقول فايز عبيد (27 عامًا) والذي تخرج من كلية الحقوق: إنه "ينتظر هنا منذ 6 ساعات، أتى برفقة مجموعة من الأقارب والأصدقاء بانتظار الشاحنات التي ربما تصل وربما لا تصل".

ويضيف: "هذه الليلة السادسة آتي هنا نقضي ساعات نصارع البعوض فيها والذباب نهارًا ورائحة الصرف الصحي طول الوقت، ننتظر ونحن جائعون، مرة واحدة نجحت في الحصول على قليل من الطحين من كيس ممزق".

وأشار إلى أنه ومن معه يأتون كجماعات كي يساعدوا بعضهم البعض عند أي قصف أو ليحموا أنفسهم من اللصوص وقاطعي الطرق. "الوضع خطير من رصاص الاحتلال واللصوص".

هرج ومرج وإطلاق نار كثيف طرأ بين المواطنين بانتظار المساعدات، عادوا يركضون، بعضهم يحمل كيسًا من الطحين على أكتافه، وآخر ترك الكيس وهرب، وآخرون استلقوا على الأرض تجنبًا للرصاص ووصلوا زحفًا.

ثلة من المواطنين برزوا من بين المحتشدين يحملون الشاب محمد الزعانين على عربة خشبية خاصة بنقل البضائع. جنود الاحتلال قتلوا الزعانين وهو يحمل طحينًا عائد به لأخواته اللواتي يتضورن جوعًا في ملجأهن.

وقال أحمد عويلي (19 عامًا): إنه ما أن اقترب من شاحنة المساعدات، حتى انفتحت النار فهرب دون أن يلتفت خلفه، مشيرًا إلى أنه رأى عددًا من المواطنين استشهدوا وأصيبوا.

ليس الموت فقط بانتظار الجياع، بل أيضًا الغياب وعدم العودة. فمنذ أول أمس تناشد بعض العائلات، عبر صفحات التواصل الاجتماعي، الجماهير للعثور على أبنائهم الذين خرجوا بحثًا عن طعام ولم يعودوا منذ عدة أيام.

وتناشد عائلة "الشاعر" المواطنين للمساعدة في العثور على ابنها حسام (52 عامًا)، الذي فقد قرب نقطة التوزيع وسط القطاع منذ ثلاثة أيام، فيما تبحث عائلة "خلة" عن ابنها أحمد (20 عامًا)، الذي فقد أيضًا أثناء تواجده عند نقطة المساعدات شمال غزة.

كما تعج منصات التواصل الاجتماعي بعشرات المناشدات من عائلات تبحث عن أبنائها الذين خرجوا بحثًا عن المساعدات ولم يعودوا منذ عدة أيام.

ومنذ أوائل آذار/مارس الماضي تمنع قوات الاحتلال دخول أي نوع من المساعدات الغذائية أو الطبية، لا الخاصة بالمؤسسات الدولية، ولا غيرها ما خلق أزمة جوع حادة.

لكنها وبعد انتقادات دولية حادة فرضت توزيع بعض المساعدات بآلية فوضوية وغير كافية وخطيرة يلقي فيها الاحتلال والشركة التي تعمل إلى جانبه سلات غذائية بكميات محدودة لعشرات الآلاف من المواطنين الذين يتعرضون للقتل برصاص والآليات العسكرية.

وكانت شبكة المنظمات الأهلية قد حذرت من آلية توزيع المساعدات الأميركية في قطاع غزة، قائلة إنها تمثل خطرًا مباشرًا على حياة المواطنين ظل الاستهداف المنهجي للمدنيين في نقاط توزيع المساعدات.

وشددت الشبكة على ضرورة وقف العمل بهذه الآلية، والعودة للعمل عبر وكالات الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية الدولية والمحلية لأن الآلية الحالية "تصب في خدمة أجندة الاحتلال بتعميق الأزمة الإنسانية".

وصل للتو عماد جابر، يحمل قنينة ماء بعد أن انتظر طويلاً، قال: إن هذا المشهد هو روتين يومي يمارسه المواطنون بعد أن كان خاصًا باللصوص، مشيرًا إلى أن "انتظار الشاحنات لنيل بعض الطعام كان عملاً منوطًا باللصوص وقاطعي الطرق المسلحين لكن الآن الجميع ينتظر الشاحنات فالغالبية مجرد مواطنين جوعى".

أما أمجد عرام (41 عامًا)، كان يعمل طباخًا في أحد الفنادق، فقال: إن زوجته حامل في الشهر السادس وربما تفقد جنينها بسبب سوء التغذية.

ويضيف: "أنا مضطر أن أجلب لها أي شيء يؤكل، وهذا هو السبيل الوحيد فلا عمل والمخزون المالي نفد بعد سنتين من العدوان".

ومنذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، قتلت قوات الاحتلال في حرب الإبادة التي تشنها على قطاع غزة 55,706 مواطنين أغلبيتهم من الأطفال والنساء، وأصابت 130,101، في حين لا يزال عدد من الضحايا تحت الأنقاض، ولا تستطيع طواقم الإسعاف والدفاع المدني الوصول إليهم.