ثمة حقيقة بأن ليس هناك شعب كما هو الشعب الفلسطيني، تراكم ذاكرته هذا الكم من النكبات والنكسات، وهذه الأخيرة، أي النكسات، هي تعبير مخفف لنكبة أو هزيمة بوزن نكبة، واللافت أن هذه الذاكرة تكونت بهذا الشكل خلال مرحلة زمنية قصيرة نسبيًا. ويعتقد كثير من الناس أن الشعب الفلسطيني في ذاكرته نكبة واحدة هي نكبة عام 1948، لأنها بالفعل كانت الأثقل سياسيًا. ولأنها قادت إلى تفكيك فلسطين وشعبها. وإذا تجاوزنا نكسة الخامس من حزيران 1967، التي أدت إلى ضياع ما تبقى من فلسطين، فإن النكبة الثانية، من حيث الفظاعة والبشاعة، هي التي نعيشها الآن في قطاع غزة، الذي حولته إسرائيل إلى منطقة غير قابلة للحياة.
وفي تاريخ النكبات، لم تكن نكبة عام 1948، هي الأولى. بالرغم أنها الأفظع والأكبر والأخطر سياسيًا وإنسانيًا، لكن سبقها نكبة لم يركز عليها كتاب التاريخ الفلسطيني بما يكفي، بالرغم من أنها كانت المقدمة الحقيقية لنكبة عام 1948، والمقصود هنا النهاية الكارثية التي انتهت إليها ثورة 1936-1939، عندما قمعت بريطانيا هذه الثورة بوحشية، قادها الجنرال مونتيغومري، وتطبيق مكثف لسياسة العقاب الجماعي وتدمير أحياء في المدن والقرى الفلسطينية، كل ذلك حدث بالتعاون الييشوف اليهودي. وما إن وصلنا نهاية الثلاثينيات من القرن العشرين كان المجتمع الفلسطيني منهكًا، وأصبح بلا قيادة، لأن سلطة الانتداب إما نفت أو اعتقلت القيادات والكوادر السياسية، وتهجر في حينه ما يقارب من مئة ألف فلسطيني إلى خارج البلاد، وكان الاقتصاد منهارًا، ولم يتمكن الشعب الفلسطيني تضميد جراحه حتى جاءت حرب عام 1948.
كما لا يمكن ألا يعتبر الفلسطيني حرب عام 1967 بأنها مجرد نكسة، فقد احتلت إسرائيل في تلك الحرب كلاً من الضفة وقطاع غزة والقدس الشرقية، وتم تشريد ما يقارب ربع مليون فلسطيني، وما مخيم اللاجئين الفلسطينيين في البقعة في الأردن إلا رمز لتلك المرحلة من التهجير. لقد كان وقع هزيمة حزيران كبيرًا على الشعب الفلسطيني ليس من الزاوية المادية. بل أيضًا من زاوية الأمل، ولو لم يصعد نجم الثورة الفلسطينية في معركة الكرامة، لكان ثقلها أكبر من زاوية فقدان الأمل وإمكانية استعادة المبادرة.
اليوم الشعب الفلسطيني يدون في ذاكرته نكبة جديدة ربما هي الأبشع والأكثر دموية ووحشية، حرب إبادة جماعية نتيجتها الحالية، أكثر من 60 ألف شهيد، و130 ألف جريح، وهناك عشرات الآلاف من الأطفال والنساء والرجال فقدوا أطرافهم وتحولوا إلى أشخاص بحاجة للمساعدة والدعم، ونحن أمام قطاع غزة وهو مدمر بالكامل، تدمير كل مقدرات الشعب الفلسطيني في القطاع، كل ذلك ولا يزال خطر التهجير القسري قائمًا. وفي الضفة تنفذ دولة الاحتلال مخططًا لتصفية مخيمات اللاجئين، وإلغاء وجودها وتهجير سكانها، وإلى جانب ذلك التوسع الكثيف للاستيطان، وخلق مليشيا إرهابية من المستوطنين، كل ذلك قد يكون تحضيرًا لمرحلة أشد خطورة تنتظر الضفة.
النكبة الراهنة بدأت تتشكل بطريقة أكثر إيلامًا في ذاكرة جيل فلسطيني جديد، فلا يكاد جيل فلسطيني واحد لم يعش تجربة نكبة مباشرة. لذلك نقول إن الشعب الفلسطيني هو الوحيد، الذي يعيش نكبات متتالية خلال أجيال ثلاثة فقط، لم يكن الشعب الفلسطيني يرغب ويريد أن يعيش مع ذاكرة النكبات والنكسات والمجازر والتطهير العرقي وحروب إبادة، هو لم يذهب إلى أي مكان ليعتدي على أحد، إنما جاءه العدوان إلى وطنه، ولم يكن هو طرف في اضطهاد اليهود في أوروبا، ولا بالمحرقة، إنما كان ضحية لهذا التاريخ الذي ليس تاريخه، ومع كل هذا الظلم الهائل الذي تعرض له الشعب الفلسطيني عليه أن يسأل نفسه، هل كل ما جرى له هو نتيجة لأعمال الآخر، أم أنه هو نفسه يتحمل جزءًا من المسؤولية؟.
من دون شك أن عدو الشعب الفلسطيني كما كل الوقت يمتلك كل العوامل ليحقق مشروعه وأهدافه، الصهيونية العالمية المتحالفة مع الاستعمار العالمي، كانت في كل الوقت تمتلك ما تحتاجه ويزيد من التفوق، ليس على الشعب الفلسطيني، وإنما على جميع دول الشرق الأوسط مجتمعة، كان هذا واضحًا في حرب 1948، عندما دخلت ستة جيوش عربية لم تفلح في إلحاق الهزيمة في العصابات الصهيونية، وفي حرب 1967، وحتى عندما باغتت مصر وسوريا في حرب 1973 سرعان ما جاء المدد من الولايات المتحدة، لتغير مسار الحرب. ويشير الواقع منذ السابع من أكتوبر العام 2023، وحتى الآن أنإسرائيل سجلت تفوقًا كاملاً.
السؤال ليس ما إذا كان بإمكان الشعب الفلسطيني تغيير المسار المدعوم من كافة الدول المتنفذة الدعم للصهيونية وإسرائيل، ولكن السؤال ما إذا كان بإمكان الشعب الفلسطيني أن يخفف من مدى فجاعة النكبات، وحصولها بهذا الشكل المدمر لو تصرف الشعب الفلسطيني وقياداته بشكل مختلف؟.
هل كان بإمكان حركة التحرر الوطنية، لو تصرفت بشكل مغاير، أن تقلل من هول النكبات التي أصابت الشعب، أم أن كل ما حصل كان وكأنه قدر محتوم لا يمكن أن نغير فيه؟.
والأسئلة تشمل كل مسيرة الحركة الوطنية منذ عام 1917، وحتى الآن، قبل عام 1948، وصولاً للنكبة، وإذا ما تصرفنا بشكل صحيح حتى بعد توقيع إتفاقيات أوسلو، وهل كان السابع من أكتوبر ضروريًا، أم أنه تسبب بنكبة أكثر بشاعة وخطورة للشعب الفلسطيني؟.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها