في عالم يتشدق بمبادئ القانون الدولي وحقوق الإنسان وتصدعت رؤوسنا بتلك المفاهيم الضائعة عند حاجتها والسؤال عنها. وأضحت العدالة تبدو كالمفهوم الأكثر تعرضًا للتسييس والانتقائية. لا ينبع ذلك من غموض في تعريفها، بل من وضوح في ازدواجية المعايير، خصوصًا عندما تتقاطع العدالة مع مصالح الدول الكبرى، وأصحاب النفوذ الدولي.
أحدث الأمثلة على هذه المفارقة، تجلت في رد الفعل الأميركي تجاه مذكرة التوقيف التي أصدرها المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بحق رئيس وزراء إسرائيل، بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع الإسرائيلي غالانت، على خلفية جرائم حرب ضد الفلسطينيين في قطاع غزة. لم تكتفِ واشنطن برفض القرار، بل قامت بفرض عقوبات على عدد من قضاة المحكمة ممثلين الدول الضعيفة واستثنت القضاة من الدول الصديقة، واعتبرته "غير شرعي" و"مسيس". هذا في حين لم نشاهد ردة الفعل نفسها عندما أصدرت المحكمة الدولية مذكرات توقيف بحق مسؤولين من دول لا تحظى برضا واشنطن، مثل السودان أو روسيا.
بهذا المعنى، تبدو العدالة الدولية أشبه بخطاب أخلاقي يُفعل فقط عندما يخدم مصلحة سياسية، ويُعطل عندما يهدد حليفًا أو يمس بنفوذ. فهل يمكن اعتبارها عدالة فعلاً عندما تطبق على الضعفاء وتعطل أمام الأقوياء؟.
لقد سبق للولايات المتحدة أن استخدمت هذا النهج عندما فرضت عقوبات على مسؤولين في المحكمة نفسها، إثر فتحها تحقيقًا في جرائم حرب محتملة ارتكبت في أفغانستان على يد القوات الأميركية. وتكرر السلوك ذاته اليوم، مع اختلاف في الزمان والمكان، لكنه يحمل الرسالة نفسها، لا عدالة خارج إطار الهيمنة.
ما يجعل المشهد أكثر إيلامًا هو أن مؤسسات العدالة الدولية قد تشكلت، في الأصل، بهدف منع إفلات مرتكبي الجرائم الجسيمة من العقاب، وإرساء مبدأ المحاسبة على الجميع، دون تمييز. لكن الواقع أثبت أن هذه المؤسسات نفسها ليست بمنأى عن الضغوط، ولا عن منطق القوة، وهو ما يجعل العدالة– كما يعرفها القانون الدولي– ضائعة، أو على الأقل مؤجلة إلى حين أن تتغير موازين النفوذ.
في السياق الفلسطيني، لطالما كانت العدالة بعيدة المنال. رغم توفر القراء، والشهادات، والتقارير الأممية حول الانتهاكات الممنهجة التي يرتكبها الاحتلال، لم يقدم أي مسؤول إسرائيلي للمساءلة. وفي كل مرة تفتح فيها نافذة قانونية للمحاسبة، يسارع حلفاء إسرائيل إلى إغلاقها، إما بالضغط السياسي، أو بالتشكيك في نزاهة المؤسسة القانونية نفسها.
هكذا، تتبدد الآمال بوجود نظام قانوني دولي عادل، غير فاعل ومنحاز ولا يؤدي إلى توقف الجرائم التي ترتكب بحق الإنسانية، بل وتمنح الفاعلين مزيدًا من الوقت للافلات، ما داموا يتمتعون بالحماية السياسية.
ليست المشكلة في هذا العالم هو غياب القانون، بل في غياب الإرادة لتطبيقه على الجميع. ولذلك، يبقى السؤال المهم، هل توجد عدالة دولية؟ بل: لمن توجه هذه العدالة؟ ومن يملك حق تعطيلها؟ ما دام العالم يتحكم في مساراته النظام العالمي آحادي القطب، والمنحاز للعدوان، والهيمنة.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها