تشهد غزّة تطورات ميدانية وإنسانية خطيرة مع استمرار العدوان الإسرائيلي وتوسّع رقعة القصف والدمار، ووسط انهيار شبه كامل للمنظومة الصحية وغياب المساعدات، هي كارثة إنسانية تتكشّف لحظةً بلحظة في ظل عجز المجتمع الدولي عن وقف المجازر. وللإحاطة بهذا المشهد، استضافت الإعلامية مريم سليمان عضو مجلس أمناء الجامعة الأردنية وعضو منتدى الفكر العربي الدكتور محمد مصالحة.
بدايةً أكد مصالحة أن مقترح ويتكوف الجديد بشأن مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة يعكس استمرار الدوران في حلقة مفرغة، حيث يتبنى المقترح الموقف الإسرائيلي ثم يعيد صياغة طروحات الوسطاء أو حركة حماس بطريقة لا تُفضي إلى تسوية حقيقية بين الطرفين.
وأشار إلى أن ميزان القوى يميل لصالح إسرائيل، لكنه يُستخدم بطريقة لا إنسانية، حيث يستهدف المدنيين والبنية التحتية في القطاع، بما في ذلك المدارس والمنشآت التعليمية، ما يعكس محاولة للضغط على الطرف الآخر للتراجع عن مواقفه.
وأوضح أن إسرائيل وصلت إلى موقف عسير، يتمثل في عجزها عن التوفيق بين أهدافها السياسية وقدرتها الواقعية على تحقيق هذه الأهداف، مؤكداً أن ما يُروَّج له من ما يسمى بنصر مطلق هو مفهوم غير قابل للتحقق من أي من الطرفين، سواء حماس أو إسرائيل.
وأضاف أن الولايات المتحدة، وخصوصًا عبر ويتكوف، تميل ضمنيًا إلى دعم إسرائيل، لكنها تجد نفسها في مأزق أخلاقي وسياسي بسبب تصاعد الغضب الدولي، خاصة الأوروبي، على خلفية الكارثة الإنسانية في غزة. وأشار إلى أن القيم الغربية حول حقوق الإنسان باتت مهددة بفعل هذا الموقف، ما قد يدفع واشنطن إلى مراجعة خياراتها.
وأكد مصالحة على ضرورة وقف إطلاق النار كشرط أساسي لبدء مفاوضات حقيقية، مشددًا على أن استمرار المفاوضات تحت النار لا يمكن أن يؤدي إلى نتائج عادلة، بل يفتح المجال لانتهاكات أكبر، مثل قتل الأسرى والمحتجزين.
وفي ما يخص الموقف الأمريكي، أشار مصالحة إلى أن واشنطن تتبنّى الشروط الإسرائيلية من خلال مقترح ويتكوف، رغم الضغوط الأوروبية المتزايدة. ولفت إلى أن المصالح الأمريكية في المنطقة، سواء الاقتصادية أو الاستراتيجية، تمنع الإدارة الأمريكية من اتخاذ موقف حاسم تجاه العدوان.
وأوضح أن التباين في التصريحات الأمريكية، خاصة منذ وصول ترامب إلى السلطة، يعكس اضطراباً داخلياً في السياسات الأمريكية تجاه غزة، بدءاً من تصريحات حول تولّي حكم القطاع، وصولاً إلى الحديث عن التهجير.
كما أشار إلى أن هناك عوامل خفية تُحرّك الموقف الأمريكي، منها أطماع في موارد الغاز والنفط، ومشاريع جيوسياسية مثل الخط الهندي، إضافة إلى النفوذ الإسرائيلي داخل الإدارة الأمريكية، ما يُضعف قدرة الرئيس على اتخاذ قرارات حاسمة لوقف الحرب.
وتابع مصالحة أن لا استقرار في المنطقة ما دام الظلم مستمرًا بحق شعبنا الفلسطيني، مشيرًا إلى أن الأمن الإقليمي يبدأ من تحقيق الأمان في فلسطين، وأن تجاهل معاناة شعبنا يغذّي حالة اللااستقرار والعنف في الشرق الأوسط.
وفي معرض حديثه عن الأوضاع الكارثية في قطاع غزة، أشار إلى أن المجازر مستمرة، والمجاعة تضرب أجساد المدنيين، في وقتٍ فشلت فيه الخطة الأمريكية لتوزيع المساعدات فشلًا ذريعًا، مؤكدًا أنها لم تكن سوى محاولة للسيطرة والتسلل السياسي واللوجستي تحت غطاء إنساني.
وأكد مصالحة أن الخطة الأمريكية لا تخدم سوى المصالح الأمريكية والإسرائيلية، بينما المنظمات الدولية كالأونروا تمتلك الإمكانيات والكوادر والبيانات اللازمة لتقديم المساعدات بشكل محترف ومنظم. وانتقد محاولات واشنطن تحويل ملف الإغاثة إلى وسيلة لإنشاء موطئ قدم في غزة استعدادًا لتحركات مستقبلية.
وفي هذا السياق، أشار إلى أن الفشل الذريع لهذه الخطة يُعيد إلى الأذهان مشاريع مشابهة مثل الميناء المؤقت، الذي قُدِّم كمساعدة إنسانية واكتُشف لاحقًا أنه ربما كان يهدف لتسهيل تهجير شعبنا خارج القطاع.
وعن المواقف الأوروبية، أكّد مصالحة على حدوث صحوة ضمير في أوروبا نتيجة ما تبثه الشاشات من صور الإبادة الإسرائيلية بحق المدنيين في غزة، مشيرًا إلى أن المجتمعات الأوروبية بدأت بمراجعة عميقة لتاريخ دعمها لإسرائيل، منذ وعد بلفور وحتى اليوم.
ورأى أن هذه المراجعة دفعت بلديات مثل برشلونة إلى اتخاذ مواقف غير مسبوقة، كقطع العلاقات مع حكومة الاحتلال، في خطوة وصفها بالمتقدمة والدالة على تحوّل حقيقي في الموقف الأوروبي.
وأشار إلى أن هذه التحولات تأتي في ظل ضغط شعبي متزايد داخل أوروبا، عبر التظاهرات والاحتجاجات والجامعات والنقابات، مما يضع الحكومات الأوروبية المنتخبة أمام مسؤولية الاستجابة للرأي العام. وأكد أن هذه المواقف قد تقود إلى الاعتراف المتزايد بالدولة الفلسطينية، في مقابل تراجع القبول بالمشروع الإسرائيلي الذي بات يُنظر إليه على أنه مشروع استيطاني استئصالي لا يقبل التعايش أو الحلول السلمية.
وشدّد الدكتور محمد على أن إسرائيل تعمل على إفشال أي مسار لإقامة الدولة الفلسطينية، من خلال تقويض السلطة الوطنية وتقسيم الجغرافيا الفلسطينية، عبر عزل غزة عن الضفة والقدس، ورفضها السماح حتى للوزراء العرب بالوصول إلى رام الله.
واعتبر أن الاحتلال ماضٍ في فرض أمر واقع بالقوة، عبر قرارات الكنيست التي تعتبر الضفة تحت السيادة الإسرائيلية، مشيرًا إلى أن هذه السياسات ستدفع ثمنًا باهظًا، وتُعيد إنتاج العداء الشعبي العربي ضد إسرائيل، كما كان قبل عام 1967.
وفي سياقرالحوار أكّد مصالحة على أن إسرائيل تعمل بجهودها كافة لإلغاء فكرة الدولة الفلسطينية بشكل ممنهج، بما يشمل تقويض السلطة الفلسطينية ومؤسساتها، ما يهيئ لها المجال لاستباحة الأرض الفلسطينية وضمّ الضفة الغربية بشكل متدرّج.
وأشار إلى أن هذه السياسات تهدف إلى خلق واقع جديد ينفي وجود كيان فلسطيني رسمي أو سياسي، وبالتالي يُسهّل على الاحتلال فرض سيادته الكاملة على الضفة الغربية دون أي تبعات قانونية أو سياسية.
وتساءل الدكتور محمد عمّا إذا كانت إسرائيل قادرة فعلاً على العيش بسلام في ظل هذا المسار، لافتًا إلى أن هناك نحو 7 ملايين فلسطيني يعيشون في فلسطين التاريخية (الضفة الغربية، غزة، وداخل الخط الأخضر)، وهؤلاء ليسوا مجرد أرقام، بل بشر يتمسكون بحقوقهم ويعون تمامًا ما يُحاك ضدهم.
وأشار إلى أن المرحلة الراهنة تختلف كليًا عن عام 1948، حيث يتمتع الجيل الفلسطيني الجديد بوعي سياسي عالٍ، ويمتلك قدرة واضحة على المقاومة، ويرفض الاستسلام رغم شراسة ووحشية القوة العسكرية الإسرائيلية.
وشدّد على أن هذا الوعي المناضل الصامد بات يُعبّر عن نفسه من خلال أصوات تصرّ على الثبات رغم الثمن الباهظ الذي يدفعه شعبنا يوميًا.
وفي تعليقه على الموقف العربي الرسمي تجاه التطورات الأخيرة، أكّد الدكتور محمد أن رفض استقبال الوفد العربي الإسلامي يُعدّ ضربة قاسية ورسالة واضحة بضرورة تغيير الأدوات والسياسات العربية تجاه الغرب وإسرائيل.
وأشار إلى أن هذه المرحلة تتطلب من الأنظمة والمنظمات العربية والإسلامية أن تعيد النظر في وسائلها، وتتحرك نحو خطوات فاعلة ومؤثرة، لا مجرد مواقف خطابية.
ودعا إلى استخدام أدوات ضغط حقيقية، مثل تعليق أو قطع العلاقات مع الدول الداعمة لإسرائيل، ورفع وتيرة المقاطعة الاقتصادية، موضحًا أن الدول الغربية هي التي تمدّ إسرائيل بالسلاح، وإذا امتنعت عن ذلك، كما فعلت إسبانيا، فستجد إسرائيل نفسها في مأزق كبير.
كما أكّد أن استمرار الاحتلال مرهون باستمرار القوة، والقوة بحاجة إلى سلاح، وإسرائيل اليوم باتت مثقلة في توزيع الموارد بين الجبهة العسكرية واحتياجات الاقتصاد والمجتمع.
وأشار إلى أن تل أبيب باتت في وضع لا تُحسد عليه، بسبب التكاليف الباهظة للحرب الجارية، ما يفتح نافذة ضغط حقيقية يجب على العرب استغلالها.
وفي هذا السياق، دعا مصالحة إلى تشكيل وفد رسمي عربي يطرح بوضوح المطالب السياسية والاقتصادية، ويربط العلاقات مع الغرب بمواقف ملموسة تجاه العدوان الإسرائيلي.
واعتبر أن هذه المطالب، رغم أنها قد تبدو مثالية للبعض، إلا أنها رسائل ضرورية يجب أن تصل إلى العواصم التي خلقت إسرائيل وتموّلها وتسلّحها حتى اليوم.
واختتم حديثه بالتأكيد على أن الموقف العربي الرسمي حاليًا في وضع حرج أمام شعوبه، إذ لا يمكن تبرير العجز والصمت أمام الإبادة الجارية في غزة، مشددًا على أن صمت الأنظمة وفشلها في اتخاذ إجراءات فاعلة يكرّس الشعور بخيبة الأمل والخذلان الشعبي العربي.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها