الشاعرة والكاتبة الفلسطينية نهى عودة
"نَحنُ مَن غيَّرنا خارِطَةَ العالَمِ حينَ بُحْنا، ونَحنُ مَن زَرَعْنا المَحبَّةَ حتّى أصبَحَتْ واقِعَنا. نَحنُ نَكتُبُ، نَحيا، نُحِبُّ ونَمْضي لِكَيْ نَبقى على قَيْدِ إنسانيَّتِنا!"،
مقولة منذ سنوات طويلة كتبتها وأنا لا أزال حتى الآن أؤمن بها إيمانا مطلقا يدفعني دوما لتحرير مشاعري وتفريغها للعالم أجمع كفلسطينية لاجئة تنتمي إلى فلسطين العظيمة.
إن الحياة وما يترتب عنها من تفاعلات ومشاعر في مسارها، اتجاهك ومصيرك معها، أحلامك ومدى تحققها، وإمكانية الوصول إلى وجهتك آمنًا، غير آبه أو مقيّد أو مُحرَّر من ذاتك.
هذه الحياة لم تقتصر على دقائق تمرّ وسنين تُعدّ، ولربما كانت ماهية تفسيرها معضلة أكبر من جميع التعابير، وأكثر مما تحتويه السطور بكثير.
منذ الصّغر، نحاول الوصول إلى الشباب بسرعة قصوى، ننتمي إلى كل ما هو ناضج عن غير قصد، فنقلّد جميع المهن وحتى الأمّ، ومن بعدها يمرّ قطار العمر، فنتمنى في أحيان كثيرة أن يتوقف هذا القطار عند محطة مُعيّنة، أو نستعيد لحظات، ولربما سنين، نستردّ فيها الفرح المطلق دون قيد أو شرط.
فهل نحن أبطال الأمس، أم ضحايا البلاد، أو الأدق: المحرومون والمحكومون لثلة من العباد؟
يُخلق الإنسان مسالمًا ومهادنًا، يتمتّع بفطرة سليمة، يستميل الفرح من براثن القهر دون أن يعلم، يمرّ بلحظاته السعيدة مرور الأبطال وفي سرعة قصوى؛ لأنه لا يدرك ماهية الفرح. يحدث هذا وأكثر، رغم ما يصيبه من حرمان في بعض الأماكن أو الماديات، إلا أن فطرته الطفولية السليمة القريبة لم تزل كامنة فيه، لولادته على هذه الأرض.
نكتب اليوم انتصاراتنا وتمرّدنا على الواقع الذي مرّ بنا ولم نمرّ به، وما أكثر الأوجاع في بلادنا العربية. لكننا اليوم نكتب هذا المقال، أو النص تحديدًا، لأننا أدركنا الموهبة في الكتابة لدينا وأدركتنا، وإلا ما كنا لنرفع الصوت ونحكّ الكلمة لنقول ونسرد ما صنع منا كُتّابًا حقيقيين.
إن الأمس الممتلئ بالفرح، وما تطرّق ودخل عليه وتداخل به من مأساة ووعي في مرحلة الشباب، ومعرفة عن كونك لاجئًا فلسطينيًا، حدودك ومخيماتك وزواريبك الضيقة، يخلق منك كاتبًا إنسانيًا يناشد البشرية لكي تمنح نفسك الحرية، وبالتالي تتخلص من اللجوء اللعين.
إن مرحلة الطفولة هي أعذب مراحل العمر، فأنت كامل، لا تُعنَى، ولا يَهدّ كاهلك عبءُ المسؤولية. أنت سيد النوم وسلطانه، والمتنصّل من التفكير الزائد، الذي لربما لم يتعدَّ كونه شجارًا يحدث مع بعض الأصدقاء.
فرحت كثيرًا في مراحل طفولتي، وإن كان الأمر يتعلّق بالأوقات التي قضيتها في المدرسة، أو حتى في المنزل والحيّ الذي لطالما أحبّني وأحببته.
كنت قد بدأت بجمع ذكرياتنا في خانة اللاوعي، دون دراية مني بأنني سأصبح ياسمينة لبلادي. هذه الخانة التي جعلت مني فيما بعد شاعرة وكاتبة، تعلم تمامًا من أين تنتصر على الألم والوجع، وكيف تصف مأساة وطنها، وكيف تعيش الحب في أشهى وأعذب مراحله، ونقطة تحوّله وتدرّجه من الطفولة إلى الشباب.
إن المرحلة التي يبدأ فيها اكتشاف الذات، هي مرحلة المراهقة، دون التصريح بما يستوجب فعله أو قوله أو حتى إثباته. فلم يكن هناك من يوجّهني أو ينتبه إلى أنني أكتب خواطر كثيرة على مُفكّرة المدرسة أو ظهر الكتاب، ولربما تعلّق الأمر كثيرًا بوصف مَحبّتي لفلسطين ولقائدي الراحل الشهيد "ياسر عرفات". لكن للإنصاف، كنت أستعمل كرّاسة صديقتي "أمل عيشة" عندما لا يتّسع ما تبقّى من دفتري لتدوين أغاني "أم كلثوم" و"نجاة الصغيرة" أيضا.
هذه الفترة تصنعك وتشكّلك دون أن تدري، ودون توجيه، فتكتب وتُسهب، وتتحوّل إلى شخص شاعريٍّ حساس، تُبكيك أغنية وتقوّيك رسالة.
لقد ازداد ميولي إلى الكتابة وتفريغ ما يحتويه الصبر عند الانتقال من المرحلة المتوسطة إلى المرحلة الثانوية، فكانت المرة الأولى التي أدخل فيها إلى مُخيّم "عين الحلوة".
هذا المُخيّم الذي يُعتبر عاصمة الشتات الفلسطيني، لقد تفاجأت بالمباني المتلاصقة، والشوارع الضيقة، والجيش اللبناني الذي يوجد على مداخل المخيم.
لقد تكوّنت داخلي صورة جديدة، مختلفة عن المرحلة الأولى في نشأتي في "وادي الزينة"، هذه المنطقة التي تُعتبر مجمّعًا للفلسطينيين، لكن دون حواجز على مداخلها وخارجها، ولا وجود لأيّ معالم مسلحة.
زاد شغفي بالكتابة، لأن الأسئلة كثرت وتراكمت، ويجب أن تُسأل، ويجب فيما بعد أن أعلم أجوبتها، فاتّجهتُ إلى تفريغ مشاعري على الكتب والدفاتر، وعلى أيّ قطعة ورق هنا أو هناك.
أنا كفلسطينية لاجئة، أحبّ وطني الأم كثيرًا، وأرغب دومًا في العودة إليه ولمس سمائه، لا يسعني إلا أن أبدع في وصف الحب والوجع في آن.
لكن في المُخيّم، تترجّح على أناتك الكافرة، تأمرها بالإيمان، وخلع عباءة التصنع، وتُحاكي الله بشجاعة أكبر.
تلك المرحلة التي تتخطّى فيها جميع القيود دون خوف، بل تبدأ بالتمرّد على واقعك، وتسأل وتتوجّه إلى دفاترك، خلقت مني "نهى عودة" اليوم، وما زلت أحبو على مسار وطريق هذه القضية الإنسانية وهذه اللغة العظيمة، وسأنجو من هذا التخبّط عندما يعلم الجميع حقيقة اللجوء وسواده ورفضنا له، متى ما أُتيحت الفرصة لذلك.
يقول طه حسين: "الطفولة صفحة بيضاء، يملؤها الكبار بما يشاؤون." وأنا أعارض الأديب الرائع "طه حسين"؛ حيث كان عليه أن يقول: إن الزمن والمواقف، واللجوء اللعين الذي يُفرض على الشعوب المقهورة بعد مصيبة تهجيرك وطردك من أرضك أمام مرأى ومسمع العالم، وسلب روحك، ودفن أولادك تحت التراب، ومن ثم تركهم، قادرٌ على جعلك إنسانًا آخر لا يشبهك، وليس له نسخ أخرى.
فلكل فلسطيني حكايته الخاصة، وسرديّته المتفرّدة، ووجعه الذي لا ينضب، في ظل عالم يمتهن الصمت بحرفية دقيقة.
الطفولة! الجزء الأعذب منا، والعامة القادمة بعدها هي نعمة أيضًا، حيث قرأت في إحدى الصفحات الإلكترونية: "إن الإنسان يتعلّم أن يتنفس رغم العواصف، ويحيا حتى وإن خفتت أنواره، أحيانًا تصبح العتمة جزءًا من الرحلة".
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها