أول أمس كانت الذكرى السنوية لاحتلال القدس ودخول الجيش الإسرائيلي المدينة المقدسة عقب هزيمة ما يسمى حرب الأيام الستة، التي خسرت فيها الدول العربية أجزاء هامة من أراضيها سنة 1967. خسرت مصر سيناء وقطاع غزة، الذي كانت تشرف على إدارته آنذاك، وخسرت سوريا هضبة الجولان التي ما زالت تحت الاحتلال الإسرائيلي، كما خسرت الأردن الضفة الغربية عندما كانت جزءًا من المملكة الأردنية الهاشمية.
تعتبر إسرائيل اليوم القدس العاصمة الأبدية لدولة الاحتلال. والدخول إليها لسكان الضفة الغربية يتم فقط من خلال التصاريح التي تمنحها إسرائيل، حتى وإن كان لغرض الصلاة في المسجد الأقصى المبارك، أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين.
في كل عام، وبمناسبة الذكرى السنوية لاحتلال القدس، تعلن إسرائيل عن مسيرة لليهود تحت شعار "مسيرة الأعلام"، بمعنى أن هذه الذكرى تمثل من منظورها توحيد شطري القدس تحت مظلة الدولة العبرية.
قليل جدًا من دول العالم اعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ومن منظور أممي تعتبر القدس الشرقية جزءًا من الأراضي الفلسطينية التي احتلت سنة 1967. الإدارات الأميركية السابقة، باستثناء إدارة ترامب، لم تعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وإن كانت تتماهى مع التوجه الإسرائيلي، فقد كان ذلك يتم من تحت الطاولة وليس علنًا. إلا أنه عندما أصبح ترامب رئيسًا للولايات المتحدة، وقع على وثيقة تعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل، لكنه لم يحظ بتأييد دولي أو اعتراف عالمي بهذا الشأن.
اقتحام المستوطنين لساحات المسجد الأقصى بقيادة وزير الأمن القومي الإسرائيلي، إيتمار بن غفير، وإقامة صلوات تلمودية بمناسبة ما يسمى "يوم توحيد القدس"، لم يكن فعلاً عفويًا. بن غفير يعتمد على جمهور يميني متطرف، ويستخدم هذه الاقتحامات لتعزيز مكانته السياسية داخل الحكومة والمجتمع الإسرائيلي، مقدمًا نفسه كمن يكسر المحرمات في السياسة والأديان، ويفرض الهيبة الإسرائيلية بالقوة. هو يسعى إلى شرعنة سياساته عبر خلق واقع جديد على الأرض، تمهيدًا لتغييرات أعمق.
تلك الرقصات والصلوات ليست مجرد حادثة عابرة، بل تأتي ضمن مشروع أوسع من التهويد والسيطرة الرمزية والعملية على الحرم القدسي الشريف. ويأتي هذا الاقتحام بقيادة شخصية سياسية رسمية، وفي ذكرى احتلال القدس، وهي مناسبة تحمل رمزية كبيرة للاحتلال، ورسالة مباشرة مفادها أن "السيادة الإسرائيلية تشمل الحرم القدسي"، وهو ما دأبت حكومة الاحتلال على ترسيخه في السنوات الأخيرة، في تحدٍّ مباشر للإرادة الدولية.
- أولاً: وتحدٍّ للوضع القانوني والتاريخي للمسجد الأقصى باعتباره موقعًا إسلاميًا خالصًا تحت وصاية أردنية.
- ثانيًا، هذه الوصاية التي تم التأكيد عليها في بروتوكول وادي عربة الموقع بين الأردن وإسرائيل سنة 1994.
لذلك، فإن هذه الاقتحامات تمثل اختبارًا دائمًا لردود الفعل العربية والإسلامية، وغالبًا ما تمر دون خطوات عملية، مما يشجع الاحتلال على المضي قدمًا. الصمت أو الاكتفاء بالتنديد اللفظي يعزز قناعة إسرائيل بأنها تستطيع فرض ما تريد داخل القدس دون تبعات حقيقية.
الرقصات والصلوات التلمودية يوم أمس، تمت بحماية الجيش والشرطة الإسرائيلية، من أجل فرض أمر واقع. فمنذ سنوات، وحكومات الاحتلال تسعى إلى إعادة تعريف "الوضع القائم" في الأقصى، ليشمل فرض وجود يهودي دائم فيه، والسماح بالصلوات التلمودية، تمهيدًا لتقسيمه زمانيًا ومكانيًا على غرار ما جرى في الحرم الإبراهيمي بالخليل.
الرقصات والصلوات التلمودية، تحت مظلة مسيرة الأعلام الإسرائيلية، التي تحدث لأول مرة بقيادة إيتمار بن غفير والمستوطنين، ليست استعراضًا فرديًا، بل هي جزء من برنامج حكومي موجه لتثبيت السيطرة الإسرائيلية على المسجد الأقصى وفرض معادلات جديدة بقوة الأمر الواقع، تمامًا كما حصل في الحرم الإبراهيمي الشريف في الخليل. إن استمرار هذه السياسة يعزز فكرة أن القدس باتت "موحدة" بالفعل تحت السيادة الإسرائيلية، وهو ما يشكل تهديدًا مباشرًا لهوية المدينة وطابعها العربي والإسلامي.
كل هذا يحدث بصمت صندوق القدس، ومنظمة العالم الإسلامي التي أُنشِئَت من أجل الأقصى عقب محاولة إحراقه سنة 1969. وكأن لسان حال العرب يقول: للبيت رب يحميه.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها