قصصٌ تنتهي قبل أن تُروى، وأحلامٌ تُقصف قبل أن تنمو، وأطفالٌ ينامون على صوت الموت ويستيقظون على رماد الحياة. هذا هو المشهد المأساوي في قطاع غزة، حيث يُقتل السكان جوعًا وقهرًا وقصفًا، وتتحوّل الحياة اليومية إلى معركة بقاء. وفي هذا السياق، استضافت الإعلامية مريم سليمان عبر قناة فلسطيننا الكاتب والمحلل السياسي الدكتور نعمان عمرو في حوارٍ تناول جذور هذه المأساة وأبعادها السياسية والإنسانية.

بدايةً، أكّد عمرو أن ما يجري في غزة يُعدّ عملية غير مسبوقة في التاريخ الحديث، تنفّذها حكومة اليمين الصهيوني المتطرف بهدف حسم الصراع لصالح الكيان الإسرائيلي. وأوضح أن هذا الحسم يتم عبر خيارين رئيسيين: الإبادة الجماعية أو التهجير القسري، مشيرًا إلى أن الاحتلال يعمل على المسارين بالتوازي.

وشدّد على أن ما يشهده القطاع من مجازر وتجويع وتطهير عرقي ليس إلا جزءًا من سياسة انتقامية ممنهجة، لكنه نبّه في الوقت ذاته إلى أن هذه السياسات لا تقتصر على غزة، بل تمتد لتشمل الضفة الغربية ولبنان وسوريا.

وأضاف أن الاحتلال يتفاخر بفرض واقع جديد في المنطقة، في ظل صمت دولي مريب، وانهيار أخلاقي وقيمي للمؤسسات الدولية، التي تحوّلت  بحسب وصفه – إلى أدوات خادعة تُستخدم للهيمنة على الشعوب تحت شعارات حقوق الإنسان والطفل والمرأة، والسلم والأمن الدوليين. وأكد أن هذه المؤسسات فشلت في حماية الشعوب، وخصوصًا الفلسطينيين، طوال أكثر من سبعة عقود.

وتابع عمرو أن المماطلة في المفاوضات الجارية بشأن قطاع غزة ليست إلا غطاءً لتمكين الاحتلال من تنفيذ أهدافه الاستراتيجية، وعلى رأسها الإبادة والتهجير. وأوضح أن الاحتلال يسعى لتحويل غزة والضفة إلى مناطق غير صالحة للعيش، لدفع سكانها نحو الهجرة القسرية.

ورغم كل محاولات الاقتلاع والتجويع، شدّد عمرو على أن الشعب الفلسطيني لا يزال متمسكًا بأرضه وحقه في تقرير المصير. ودعا إلى إحياء أمل واقعي يستند إلى الثبات الوطني، بعيدًا عن الأوهام التي روّجت لها المؤسسات الدولية التي فشلت أخلاقيًا وإنسانيًا في حماية الفلسطينيين.

وفي حديثه عن الوحدة الوطنية، أوضح عمرو أن إنقاذ ما تبقى من القضية الفلسطينية يتطلب برنامجًا وطنيًا موحدًا تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية، بصفتها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. شدد على ضرورة تحديث بنيتها وبرامجها بدلًا من تقويضها، لأنها تمثل "خيمة الشرعية الدولية" التي لا يمكن هدمها في هذه المرحلة الحرجة.

وعن أهداف الاحتلال في عملياته العسكرية، كشف عمرو أن إسرائيل تسعى إلى تحقيق ثلاثة أهداف رئيسية في غزة: السيطرة على أراضٍ جديدة لإقامة مستوطنات، القضاء على أكبر عدد ممكن من المدنيين، والضغط على المقاومة لتحقيق مكاسب سياسية. وأضاف أن ما يحدث ليس حربًا بين جيشين، بل عدوان ضد شعب أعزل يُقاتل من أجل البقاء.

كما حذّر من محاولات الاحتلال تغيير الواقع الديموغرافي في غزة، من خلال تهجير نصف السكان، مستشهدًا بتصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي حول ترحيل ما لا يقل عن مليون فلسطيني. وأشار إلى تفاقم مأساة الأسرى والمعتقلين، مؤكدًا أن إسرائيل تعترف رسميًا بـ1840 أسيرًا من غزة، فيما تشير تقديرات حقوقية إلى أن الأعداد الفعلية تفوق ذلك، مع ورود أنباء عن استشهاد أسرى داخل المعتقلات دون إعلان رسمي.

وأكد أن الاحتلال لا يكتفي بجرائمه بحق المدنيين، بل يواصل التنكيل بالأسرى الفلسطينيين، مشيرًا إلى استشهاد أكثر من 65 أسيرًا منذ 7 أكتوبر، من بينهم أكثر من 45 من غزة وحدها، في ظل سياسة الإخفاء القسري ورفض الاعتراف الرسمي باعتقالهم.

وفي سياق الحديث عن العملية الإسرائيلية المسماة "عربات جدعون"، رأى عمرو أن الاحتلال يحاول إضفاء شرعية دينية على عدوانه، رغم أن الحركة الصهيونية ذات جذور علمانية. وأوضح أن استخدام رموز دينية مثل "جدعون" ليس سوى محاولة لإضفاء طابع ديني على مشروع استعماري توسعي، لا سيما بعد إقرار قانون "القومية" الذي يحصر الحقوق الديمقراطية باليهود فقط.

واعتبر عمرو أن ما يجري في غزة هو إبادة جماعية ممنهجة، تُستخدم فيها وسائل غير مسبوقة مثل الحرمان من الماء والكهرباء والدواء، في ظل انهيار قيمي عالمي وصمتٍ دولي مطبق، مشددًا على أن الشعب الفلسطيني لا يملك سوى الصمود والتمسك بمنظمة التحرير الفلسطينية كمرجعية سياسية جامعة.

وفي هذا الإطار، كشف عمرو عن تواصلٍ تم في وقت سابق بين إدارة ترامب ودول عربية مثل ليبيا لبحث إمكانية ترحيل سكان غزة، مؤكدًا أن هذه المشاريع تأتي ضمن مسار استعماري مستمر منذ عقود، يُعيد إنتاج السياسات الإمبريالية ذاتها.

وعن الدور الأميركي، شدد عمرو على أن الولايات المتحدة تمثل الراعي الرئيسي للعدوان سياسيًا وعسكريًا، وأنه لا أمل في وقف المجازر دون تغيّر جذري في الموقف الأميركي، إذ أن الأسلحة والدعم الدبلوماسي هما ما يتيحان لإسرائيل الاستمرار في ارتكاب هذه الجرائم.

وفيما يخص الحراك العربي، رحّب عمرو بأي جهد عربي أو دولي، خصوصًا مخرجات القمة العربية الأخيرة في بغداد، لكنه أشار إلى محدودية تأثير الجمعية العامة للأمم المتحدة مقارنة بمجلس الأمن المعطل بفعل الفيتو الأمريكي. كما أشاد بالموقف الإسباني الرافض للعدوان، داعيًا إلى تأسيس منظومة دولية قادرة على فرض عقوبات على إسرائيل ومحاسبتها على جرائمها.

واختتم عمرو بالتأكيد على أهمية الحراك الشعبي العربي والإسلامي، والدعم الذاتي الفلسطيني، معتبرًا أن ما يتعرض له أهلنا في غزة والضفة ليس فقط حربًا مادية، بل استهداف ممنهج لهويتهم الجماعية، ومقدمة لسياسات تهجير قسري تُنفّذ تحت غطاء "الإبعاد الطوعي". ورأى أن الرد الحقيقي يبدأ من الإيمان بعدالة القضية، ومن صمود شعبٍ يُصرّ على الحياة رغم كل محاولات الموت.