بقلم: عبد الباسط خلف 

يجدد السادس عشر من أيار أحزان عائلة النابلسي، التي ما زالت مسكونة بالحزن منذ 49 عامًا على ابنتها لينة، ثاني شهيدة في جبل النار عقب النكسة.

وبالكاد تتمالك مها حسن النابلسي نفسها، وهي تستعيد سيرة أختها، الفتاة النحيفة والباسمة، التي ذاع صيتها منتصف سبعينيات القرن الماضي.

وتستلقي على جدران منازل أفراد العائلة صورة لينة، فيما تخطط الأسرة العام القادم لعمل يخلد ذكرى ابنتها بعد 50 عامًا من وجع غياب طفلة كانت تصنع غدها.

وتبوح شقيقتها بصوت مسكون بالحزن وبشريط ذكريات مبلل بالدموع: بدأت قصة لينة عقب أحداث يوم الأرض عام 1976، حين طلبتها مخابرات الاحتلال للتحقيق أكثر من مرة. وقبل يومين من استشهادها، نزل جندي احتلالي من نقطة المراقبة الملاصقة لبيتنا قرب مدرسة الفاطمية، وطلب من لينة تعبئة مطرته، فرفضت، وصرخت بأن لا ماء عندهم.

وتضيف: خرجت والدتي على صوت لينة، وطلبت من السيدة أم فوزي التي كانت تنظف درج الحي أن تلبي طلبه. وأعادت مخابرات الاحتلال طلبها للتحقيق ثانية، وهددوها بالقتل، لكنها لم تخف، وقالت: إن كتب الله نهاية عمرها، فستموت.

وحسب الأخت التي تكبر لينة بعام، فإن كلمات ضباط الاحتلال وتأكيداتهم لها بأنهم "سيطردون كل فلسطيني من أرضه، وسترى إن عاشت بيتًا لكل مستوطن في كل جبل"، جعلها تتوقف طويلاً عندها، ولم يرمش لها جفن.

وتواصل بث أحزانها، فقد لحقت أمها بابنتها صباح الأحد 16 أيار 1967 خلال امتحانات الفصل الثاني، وطلبت منها ألا تذهب؛ خشية تعرض الاحتلال لها، فوعدتها بعدم المشاركة في التظاهرات، والاستمرار في تفوقها. فردت: "سيدركني الموت ولو كنت في بروج مشيدة".

- اغتيال

تسكن جدران ذاكرة النابلسي، قطع لينة لحصة الرياضيات في مدرسة الكرمل، بعد سماع إطلاق النار، وخرجت وتبعتها رفيقتها شروق جعارة. وبعدها، انطلقتا من مدرسة العائشية نحو شارع فيصل، وقصدتا العودة إلى البيت، لكن جنود الاحتلال لحقوا بهما، فاحتميتا بصاحب ورشة حدادة بداية منطقة الشيخ مسلم، إلى أن غادر الجنود.

وتسترسل بحسرة: بعد وقت قصير، لبت اختي دعوة صديقتها من عائلة المصري لتناول الملوخية، فصعدت وشروق إلى منزل المربي أمين المصري، لكن أحد جنود الاحتلال لحق بهن، وحطم باب غرفة الضيوف، وأطلق رصاصتين على لينة، وهي جالسة على الأريكة، فأصيبت في الجانب الأيمن من العنق والصدر، واستشهدت على الفور، وسقطت نظارتها، أما شروق فسحبها القاتل بقوة بيدها اليمنى، ونال منها بعدها سرطان الغدد اللمفاوية، ونقلت إلى "هداسا" وحين زرتها، أخبرتني بأنها لن تعيش بعد لينة كثيرًا، ورحلت بالفعل بعد 40 يومًا.

وحسب النابلسي، فإن الشبان حملوا شقيقتها ونقلوها إلى المستشفى الوطني، فتبعهم الجنود، إلا أنهم نجحوا في تهريبها إلى البيت، ووقف رئيس البلدية بسام الشكعة بكل قوة ضد احتجاز الجثمان، وانطلقت جنازة مهيبة للينة، شبهها أهالي المدينة بجنازة الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر.

وتوالي الأخت التي عملت طويلاً في صيدليتها التي تخلد اسم لينة: "عرفنا لاحقًا أن قاتل أختنا جندي درزي اسمه حداد، ادعى الاحتلال بإصدار حكم عليه بالسجن أربعة أشهر مع وقف التنفيذ. ومن المؤكد، أن قتل لينة جاء لقمع الهبة الشعبية التي انطلقت في يوم الأرض من ذلك العام".

- لؤلؤة حمراء

أبصرت لينة النور في 26 كانون الثاني 1959، وانتزعت المركز الأول في امتحان شهادة الدراسة الإعدادية (المترك) لعام 1971، ونالت لقب ثاني شهيدة في نابلس بعد النكسة، وغنى لها الفنان اللبناني أحمد قعبور في (يا نبض الضفة) لينة كانت طفلة تصنع غدها، فيما وصفتها الشاعرة فدوى طوقان بـ"اللؤلوة الحمراء"، وغناها الشيخ إمام، وخلدها الفنان سليمان منصور بلوحة ذاع صيتها، واستذكرها أطباء مصريون بعمل فني، ونقشت على قبرها كلمات الراحل الشيخ محمد البسطامي: "هنا توارت بجوف التراب آنسة، كالشمس غاب سناها عن فلسطينا". 

وتفيد الأخت بأن يوم استشهاد شقيقتها كانت في عامها الدراسية الأولى بجامعة دمشق، وعلمت من الأخبار بإصابة أختها، فحزمت حقائبها وانطلقت إلى عمان، وعرفت في بيت خالتها أن روحها صعدت إلى السماء.

وتضيف: بأنها أسرعت في الصباح إلى الجسر، وحين وصلت أريحا، بدأ السائق بالقلق للطريقة التي سيصل فيها إلى نابلس، فهناك شهيدة يوم أمس في الثانوية العامة، والدها معروف ومالك صبانة في الياسمينة، واسمه حسن النابلسي، فقفز الراكب الجالس بجوارها، وراح يتحسر على ابنة أبو مصباح، دون أن يعرف أن أختها ترافقهم، فانفجرت بالبكاء.

وتتابع مها: جمعني آخر حوار بلينة قبل سفري، وفيه دعتني إلى إنقاص وزني، وتقليدها برشاقتها، ونقلت لي أحلامها بالسير جانبي في جامعة دمشق، وحلمها بدراسة الطب، والتخصص في جراحة الأعصاب.

وحسب الشقيقة، فقد كانت لينة جريئة، وجدية، وامتلكت قامة مكنتها من التحليق بكرة السلة، وتأثرت كثيرًا بأمها المربية وخريجة الجامعة الأميركية حياة النابلسي، فامتلكت لسانًا طليقًا بالإنجليزية، وحجزت مقعد التفوق الأول في صفها، وحصدت أوسمة عديدة، وانخرطت في التمثيل باللغة الأجنبية، والدبكة، وأحبت التاريخ والجغرافيا، وأبدعت في تنسيق الخرز، وجمعت بشغف الطوابع والعملات، وحرصت على الأناقة والترتيب في خطها وملابسها، وأبدعت عزف الغيتار، وأحبت زهر الياسمين، وواظبت على زيارة مكتبة بلدية نابلس، وخلال رحلات عائلتها لمعت بين إخوتها مصباح وفواز ومها في تأمل طبيعة سوريا ولبنان.

وتكمل النابلسي بقصة إصرار اختها على تغيير طريقة كتابة اسمها من (لينا) إلى (لينة) يوم عادت شاكية من صفها الثالث عقب قراءة آية كريمة من سورة الحشر في القرآن الكريم تشير إلى اسمها (وما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة)، طالبة تصويب الاسم لينتهي بالتاء المربوطة لا الألف، وليشير إلى النخلة الصغيرة، وهو ما فعله والدها.

- علم

ووفق الأخت المكلومة، فإن المربية سحر شويكة نقلت للعائلة ما أبدعته لينة في كراسة التعبير: أطبقت عيني، وتخيلت نفسي علمًا، علمًا يرفرف في الآفاق، وبين خيوط الشمس، يرفرف فوق. وكنت أرى نفسي أرقص فوق زهرات نعشه، أتمايل مع حبات النسيم المتطايرة كنجمة ترقص. لكن شويكة قالت بعد استشهاد طالبتها: تخيلنا لينة في النص محمولة على الأكتاف.

ومما خطه والدها، قبل رحيله عام 1999: إنني أرى من عين لينة ساحة الأقصى، وكنيسة القيامة تتعانقان وتطالبان بالحق الشرعي والسلام العادل.

فيما كتب رئيس بلدية نابلس يوم ارتقت لينة: بعد انتخابات دوائر البلدية سنة 1976 بأسابيع قليلة، كان أول تعامل ساخن مع سلطات الاحتلال، يوم استشهاد لينة، حين فقد شعبنا فتاة مميزة، اغتيلت في بيت صديقتها، بعد تظاهرة طلابية. فقد أراد اغتيالها هي بالذات، حيث كان بإمكانه اعتقالها، لكنه صمم على أن ينهي حياة واعية نشطة مجتهدة محبوبة ناجحة. عرفت قيمة لينة بأعمق صورة عندما زرت المدرسة العائشية، واجتمعت في الساحة مع الطالبات والمعلمات، وكنت أرى الدموع في عيونهن، والهدوء الحزين الذي يحتفظ بلينة.

تخلد مها شقيقتها فأسمت صيدليتها باسمها، وأعادت وشقيقها مصباح إطلاق لينة على ابنتيهما وبالتاء المربوطة، الأولى مهندسة معمارية والثانية مهندسة حاسوب. لكن الأخت تعيش حسرة كبرى لخسارة شقيقتها، وما يخفف من وجعها أنها ما زلت ترفرف في سماء فلسطين، وظل اسمها رمزًا لشهداء الحرية.

وتتوقف العائلة كثيرًا عند الممرضة الفرنسية المتطوعة (فرانسواز كاستينا)، التي غيرت اسمها إلى لينة النابلسي، وانضمت لصفوف الثورة الفلسطينية في لبنان، واختفت آثارها بعد مذابح صبرا وشاتيلا.

توفيت والدة لينة عام 2012، وظلت تحمل حسرة ابنتها حتى الدقيقة الأخيرة، فيما كان والدها الراحل صلبا ودعم عائلته لتجاوز حزنها.

وتنهي الأخت: لو بقيت لينة بيننا اليوم لكانت طبيبة بعمر 66 عامًا، لكنها ارتقت وتبعها آلاف من أبناء شعبنا بأحلامهم وأغنياتهم وقصصهم.