بينما تُباد غزة على مرأى ومسمع العالم في مجازر تُعيد إلى الأذهان أكثر صفحات التاريخ قتامة، وبينما تُدمر مخيمات اللاجئين في الضفة الغربية بلا هوادة، اختار دونالد ترامب أن يستأنف حضوره السياسي الدولي عبر جولة خليجية بدأت من السعودية، دون أن يذكر فلسطين، ولو عرضاً. هذا الصمت السياسي المتعمد، المشبع بالاحتقار لحقوق شعبٍ يُذبح كل يوم، لم يأتي فقط من ترامب، بل من قيادات استضافته وشاركته تجاهل القضية الفلسطينية، بل ورحبت به استقبالاً وتحالفاً وصفقات.
الزيارة التي تم الترويج لها كفرصة اقتصادية، تجاوزت ذلك إلى ما هو أخطر، بحيث تم إعادة بعث رؤية ترامب القديمة عن "الشرق الأوسط الجديد" المستندة إلى تصفية القضية الفلسطينية منذ بدء ما سمي بالربيع العربي، وتوسيع دائرة التطبيع مع إسرائيل خارج أي سياق للعدالة أو إنهاء الاحتلال الاستعماري العنصري. مشروع يندرج ضمن خريطة استراتيجية إمبريالية تسعى إلى إعادة رسم المنطقة بما يخدم أمن وتوسع إسرائيل، ومصالح المجمع الصناعي العسكري الأميركي، وتثبيت أنظمة الحكم التابعة في المنطقة.
مئات المليارات طُرحت على الطاولة، منها أكثر من مئة مليار لصفقات سلاح، بينما أُسقطت فلسطين من البيان المشترك، وغابت من التداول العلني، في واحدة من أكثر لحظات الصراع دموية. وبدلاً من أن تكون الإبادة الجماعية في غزة عنوانًا للتحرك السياسي، تحولت إلى مجرد خلفية صامتة لا تُزعج المصالح المتبادلة بين ترامب ومستضفيه من الشيوخ الذين بدا أنهم يواصلون دورهم المركزي في بناء تحالف اقتصادي، أمني، تكنولوجي مع إسرائيل، وفق منطق "السلام مقابل المال" لا الحقوق.
ما يزيد المشهد خطورة هو إدراج ترامب لقاءً خاصًا مع أحمد الشرع، رئيس ما يسمى "السلطة السورية المعينة" التي أتت عبر الغزوة من الشمال، والتي تستند إلى الاحتلال التركي بدعم أميركي خليجي. هذا اللقاء لم يكن عرضياً، بل جاء في سياق توسيع أدوات المشروع الأميركي في المنطقة، من خلال كيانات وظيفية ضعيفة تمثل قوى انفصالية أو سلطات محلية لا تمتلك شرعية شعبية أو انتخابية، ولا تعبر عن الهوية الوطنية الجامعة المتعددة والمتنوعة في الإطار الوطني. وقد يرتبط ذلك بسيناريوهات لتفريغ مناطق معينة مستقبلاً، ضمن هندسة جيوسياسية تسعى لتفكيك الهوية القومية الجامعة في المشرق العربي، وقد تُستخدم لتبرير تهجير إضافي لشعبنا الفلسطيني نحو الأردن أو سوريا، رغم الرفض العلني لذلك من بعض الأطراف، وعلى رأسها الأشقاء في القيادة الأردنية.
إن تغييب فلسطين من الحسابات الرسمية لبعض العواصم، وغياب أي رد فعل حقيقي على ما يحدث في غزة والضفة وبالمقدمة منها القدس الشريف، هو تهرب فاضح من المسؤولية القومية والتاريخية وحتى الأخلاقية. ويؤشر إلى استعداد هذه الأنظمة للدخول في تحالفات تؤمن "الاستقرار" على حساب القيم، و"التنمية" على أنقاض السيادة الوطنية، و"الذكاء الاصطناعي" فوق جماجم الأطفال.
وفي هذا السياق، تغيب فلسطين عن الطاولات الرسمية، لكنها تبقى في ضمير الشعوب الحرة. وتبقى الحقيقة ساطعة، بأن لا أمن بدون عدالة، ولا استقرار بدون إنهاء الاحتلال، ولا مستقبل في ظل الإبادة والمحرقة وبناء مشروع إسرائيل الكبرى. فالتطبيع الذي يستند إلى خرافات وأساطير الرؤية الإبراهمية التوراتية، مهما توسع لن يمنح إسرائيل شرعية أخلاقية وسياسية وقانونية في استمرار جريمة احتلالها وتداعياتها، والمليارات التي تُضَخ، لن تشتري صمت التاريخ.
إن التواطؤ الرسمي أينما كان مصدره، والازدواجية الغربية ونفاق المواقف السياسية، كلها تحديات تفرض علينا كفلسطينيين أن نعيد صياغة مشروعنا الوطني التحرري بأدوات أكثر صلابة وبإرادة سياسية واضحة. أن نحصّن وحدتنا الداخلية، ونعيد بناء واستنهاض منظمة التحرير الفلسطينية على أسس تمثيلية ديمقراطية واسعة، لتكون قادرة على قيادة نضال شعبنا في الميادين السياسية والقانونية والدبلوماسية والميدانية، مستندة إلى وحدة شعبنا في كافة أماكن تواجده وبرنامج وأدوات تعتمد استراتيجية التحرر الوطني وحماية شعبنا وتمكينه من الصمود.
اليوم، وأكثر من أي وقتٍ مضى يجب أن نعيد تفعيل تحالفاتنا مع القوى الحية في العالم والدول الصديقة، ومع الحركات التقدمية المناهضة للاستعمار والعنصرية، ومع الشعوب التي تقف إلى جانبنا وتتظاهر تضامنًا معنا في عواصم الدول. فالعالم في مسار تغيره الدائم لا يزال يحمل بذور العدالة والمساواة، رغم طغيان الإمبراطورية التي تُشرف على الأفول كما سقطت غيرها عبر التاريخ، وخاصة الآن مع بدايات ظهور النظام الدولي المتعدد الأقطاب.
إن فلسطين ليست بنداً في ميزان الصفقات، ولا صندوق بريد بين العواصم. فلسطين هي قلب هذه المنطقة، وهي ميزان كرامتها ومصدر شرعيتها. ومهما بلغت شراسة العدوان، وعمق التواطئ والانصياع، فإن قضية عادلة بحجم فلسطين لا تموت.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها