بقلم: محمد دهمان

على أطراف "مواصي خان يونس"، حيث خيام اللجوء الممتدة فوق أراضٍ زراعية سُرقت منها الحياة، يجلس يعقوب الأغا (85 عامًا)، على مقعد بلاستيكي متهالك، حفرت السنون على وجهه خريطة نكبتين، فهو من أولئك الذين حملوا وجع النكبة الأولى، وها هو اليوم يشهد كارثة جديدة تلتهم ما تبقى من الذاكرة والأمل في غزة المنكوبة.

"كنت طفلاً في السادسة من عمري حين وصلت أول دفعة من لاجئي قرية بربرة، جاؤوا خائفين حفاة، بعضهم يحمل أطفاله على الأكتاف، وآخرون بلا شيء سوى ثيابهم، كانوا حوالي ثلاثين عائلة، من بينها عائلة (أحمد)، جاؤوا يركضون من المجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية بحقهم، وتركوا بيوتهم ومزارعهم وهربوا إلى الجنوب"، بهذه الكلمات استهل الرجل الثمانيني حديثه عن نكبة عام 1948.

كان والد يعقوب يعرفهم، تجمعه بهم تجارة متينة وصداقة عائلية قديمة، لذا لم يتردد في فتح أبواب بيته لهم في السطر الشرقي من مدينة خان يونس.

قال الأغا: "بيتنا أصبح لهم مأوى، كنا نطعمهم من خبزنا ونشاركهم الماء، أمي كانت تطبخ لهم، وجدتي تخيط ملابس أطفالهم".

يسترجع الرجل تفاصيل لم تعد موجودة سوى في ذاكرته: "كنا نملك بيتًا في منطقة الجبلية بيافا، بيتًا صغيرًا لكنه كان محطة لأبي وقت التجارة. يافا وقتها كانت قلب فلسطين النابض، مدينة زراعية وتجارية عظيمة، لكن كل شيء تبدّد".

ظلّ اللاجئون في أرض عائلة الأغا لأشهر، إلى أن بدأت المنظمات الدولية، بإشراف الأمم المتحدة، بإنشاء مخيمات اللجوء في جباليا وشمال غزة، فنُقلوا إليها مع آلاف غيرهم، في مشهد يشبه قوافل الشتات.

ويقول الحاج يعقوب وهو يشير بيده إلى البعيد، حيث الخيام تُنصب من جديد: "كنت أرى دموع الرجال وهم يغادرون أرضنا، كانوا يشكرون أبي ويودعونه وهم لا يعلمون إن كانوا سيعودون يومًا إلى قراهم التي هُجروا منها قسرًا".

وحين كبر يعقوب، بدأ فصلاً آخر من فصول المعاناة، بعد أن أنهى دراسته الثانوية في غزة، غادر إلى جمهورية مصر العربية لمواصلة تعليمه، وكانت غزة حينها تحت الإدارة المصرية.

يقول الحاج يعقوب بصوت غائر: "كنت أحلم بأن أعود وأنهض ببلدي"، "لكن وأنا في مصر اندلعت حرب حزيران/يونيو 1967، واحتلت إسرائيل الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية، فصرت نازحًا لا أستطيع العودة إلى مدينتي".

أكمل دراسته رغم النكسة، ثم انتقل إلى دولة الكويت حيث عمل مدرسًا، وهناك بنى حياته، وتزوج من ابنة عمه، ميسرة الأغا، ورُزق بأولاده وهم في الغربة.
ويقول الأغا: "كنت أزور غزة المحتلة بتصريح زيارة فقط، فلم أكن أملك حق العودة"، ويتابع: استمرت غربته سنوات طويلة، إلى أن عاد أخيرًا إلى غزة عام 1994 عقب اتفاقية أوسلو التي أعادت عشرات آلاف النازحين، ليعمل كاتب عدل في وزارة العدل حتى تقاعده.

لكن المفارقة الموجعة أن الحاج يعقوب، الذي كان يزور غزة ضيفًا طوال غربته، صار لاجئًا فيها بعد تقاعده، وفي شيخوخته.

يقول بصوت متهدّج، وهو يستذكر ليلة قصف بيته في السطر الشرقي من خان يونس خلال اجتياح الجيش الإسرائيلي للمدينة: "رجعت الأيام السوداء، ورجعت أنا لاجئًا".

ولجأ الحاج يعقوب إلى مدينة رفح، إلى بيت صديق قديم من عائلة حجازي تربطهم بالعائلة صداقة عمرها قرن من الزمان.
ويضيف: "بيتي الذي كان ملاذًا في نكبة 48، أصبح هو نفسه غير صالح للسكن بسبب استهدافه بالقنابل والصواريخ، خرجنا منه ونحن نركض، أنا وزوجتي وأولادي وأحفادي، ليس معنا إلا الله".

لكن حتى الملاذ المؤقت لم يدم. ويتابع: "في أيار/مايو طلب جيش الاحتلال الإسرائيلي إخلاء رفح، وما كان أمامنا سوى العودة إلى أرضي زراعية في مواصي خان يونس، حملت ما أستطيع حمله، ورجعت ومعي كل إنسان طلب مني أن أوفر له المأوى".

حوّل الحاج يعقوب أرضه المثمرة إلى منطقة إيواء إنسانية، نصب فيها عشرات الخيام. يروي بأسى كيف بدأ يقسّم الماء على العائلات، ويطهو ما تيسّر من الطعام، ويعطي أطفاله وبناته حصصًا يومية من الخبز لتوزيعها على الجيران.

يقولها وهو يربّت على كتف حفيده الأصغر الذي يجلس إلى جواره: "أنا اليوم لاجئ، لكني لم انسى ما علمني إياه أبي، الكرامة ما بتنشرى، واللي بده يعيش لازم يوقف مع غيره".

الحاج يعقوب أب لأربعة أولاد وبنتين، جميعهم أصبحوا يدًا واحدة في مساعدة من لجأ إليهم. أبناؤه يقيمون خيامًا إضافية، زوجته تطبخ في قدور كبيرة، وابنته تحاول تقديم دعم نفسي للأطفال عبر الألعاب والكلمات الطيبة.

يهمس الحاج يعقوب، بينما عيناه تمتلئان دموعًا لم يسمح لها أن تنهمر: "أصبحنا نحلم بشربة ماء، بخبزة. الأرض التي كنا نزرعها، أصبحت خيام، لم يعد يوجد شيء، نكبة 48 هجرت الناس، لكن نكبة 2023 جرّدت الإنسان من كل شيء، من الأمان، والبيت، والماء، وحتى من العالم الذي واجهه بالخذلان".

وقال عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، رئيس دائرة شؤون اللاجئين، أحمد أبو هولي: إن ما يعيشه قطاع غزة منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 يمثل نكبة جديدة في تاريخ الشعب الفلسطيني، تجاوزت في حجمها ومدى دمارها نكبة عام 1948، ليس فقط من حيث التهجير، بل من حيث تدمير البيئة الحياتية كاملة.

وأضاف: "نكبة غزة 2023-2024 هجرت أكثر من 1.9 مليون فلسطيني من أصل 2.3 مليون نسمة، أي ما يزيد على 85% من سكان القطاع، قُصفت بيوتهم، ودُمرت أحياؤهم، وحُرموا من الماء والطعام والدواء. وأصبحت الخيام مشهدًا جديدًا مألوفًا يعيد الذاكرة إلى عام 1948".

وأشار أبو هولي إلى أن ما يجري ليس فقط في غزة، بل يمتد ليطال مدن الضفة الغربية التي تتعرض منذ بداية الحرب لعمليات تهجير قسري وهدم منازل واقتحامات متواصلة، لا سيما في جنين ونابلس وطولكرم، وكذلك القدس التي تشهد تهويدًا متسارعًا وطردًا مستمرًا لسكانها الأصليين.

وأكد أن عدد الشهداء في قطاع غزة منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 وحتى اليوم تجاوز 52787 شهيدًا، معظمهم من النساء والأطفال، إضافة إلى أكثر من 119349 جريحًا، فيما سُجلت مئات العائلات التي أُبيدت بالكامل. وفي الضفة الغربية بما فيها القدس، ارتقى أكثر من 900 شهيد خلال الفترة نفسها نتيجة لعمليات القتل المباشر والاقتحامات الإسرائيلية.

وبالحديث عن النكبة الأولى، أوضح أبو هولي أن نحو 950 ألف فلسطيني تم تهجيرهم من ديارهم قسرًا عام 1948 من أكثر من 531 بلدة وقرية فلسطينية. ووفقًا لتقديرات دائرة شؤون اللاجئين، فإن عدد اللاجئين الفلسطينيين اليوم يُقدّر بنحو 7.5 مليون لاجئ، موزعين على النحو التالي: نحو 2.8 مليون في الضفة الغربية وقطاع غزة، و2.5 مليون في الأردن، ونحو 667 ألفًا في سوريا، و553 ألفًا في لبنان، بالإضافة إلى دول الشتات الأخرى، في أوروبا وأميركا وكندا.

وختم أبو هولي حديثه بالتشديد على أن "النكبة ليست ذكرى، بل هي واقع مستمر. واللاجئ الفلسطيني لا يحتاج فقط إلى الخيمة، بل إلى عدالة تعيد إليه حقه وكرامته. ما نراه اليوم هو استمرار للمشروع نفسه الذي بدأ عام 1948، لكننا باقون، وسنظل نُذكّر العالم أن لنا وطنًا لا يُمحى بالتقادم ولا بالقوة".