احتل المستعمرون والغزاة المدججون بأسلحة الجيوش بيتي وبيتك، وسلبوا ارضي وأرضك، حتى أجبرنا- تحت تهديد الإرهاب الاستعماري المنظم- على دخول زمن النكبة، لكنا لم نفقد بوصلتنا (انتماءنا) فبقينا ندور في فلك جذورنا المتأصلة في المكان (الوطن)، تدفعنا طاقة الروح الأبدية بثلاثيتها المقدسة: "هنا كنا" و "هنا باقون" و "هنا سنكون".
لم نضل، ولم نقع في الثقب الأسود الذي أرادوه لنا كملجأ بلا نهاية، فمن خطط ونفذ، ظن أننا لن نعود أبدًا، لكنهم خسئوا، لأن بوصلتنا (الهوية) ظلت معنا، فهذه عصية على المصادرة، لا تنطبق عليها قوانين الفيزياء والكيمياء، ذلك أنها سر، من أسرار حياة الجذور الإنسانية. ولأن الانتماء كان طاقتنا للديمومة. ولأن المستعمرين والغزاة لم يقدروا على استبدال قلبنا الأصلي (ثقافتنا الانسانية) بآخر انتجته مختبراتهم. فاحتفظ آباؤنا وأجدادنا بمفاتيح بيوتهم، وطابو الموروث، حتى باتت معيارًا للغنى ولم يزل.
فالشعب الفلسطيني استمد من الصبر على النكبة، إرادة الثورة والنضال، وأسس لثقافة تحرر واستقلال بالفكرة والقرار. ومنذ تلك اللحظة، بتنا نرى النكبات، كنوائب تنزل علينا، أو تنبت كالفطريات السامة والبكتيريا في الزوايا المعتمة من بنياننا، منها: نكبة تخوين وتكفير العقلانية والواقعية، والمعرفة، ونكبة التعامل مع الأمور والقضايا الوطنية المصيرية، بمنظور الغيبيات والأساطير المخترعة، وبسلوك القاصر الانفعالي العبثي، المهووس بالأنا الفردية، والحزبية الفئوية العمياء، غير القادرة على رؤية المصالح الوطنية العليا للشعب الفلسطيني، ونكبة تجيير الحق الفلسطيني كورقة استثمار لصالح دول وقوى إقليمية، ونكبة انقلابيين استكبروا على شعبنا، واعتبروا من يعارضهم وفقًا لأصول منهج الديمقراطية كافرًا، وخائنًا، وعميلا. حتى صار العبث بمبادئ السياسة الوطنية جهادًا، وتدمير أركان الكيان السياسي الفلسطيني انجازًا ونصرًا مبينا. ونكبة تفريغ الحوار الموضوعي العقلاني من مقوماته، ومبادئه أصلاً، وتحويله الى مسارح للتهريج لاكتساب تصفيق الحشود. ونكبة ارتداء أثواب، يروجون أنها خاصة بالتقاة، لكنها في الحقيقة فاضحة لعورات دجالين، يأخذون الكلام يمينا تارة، ويسارًا تارة أخرى، حتى القيم والأخلاقيات، والمصداقية باتت بضاعة مقلدة، شتان ما بين الأصلية بمضامينها وجواهرها، وما بين المزيفة ولو بإتقان.
ونكبة دفعت إنسان الوطن للجحيم، لإثبات مفاهيم باطلة أصلاً، لا تسند بأدلة وبراهين ولا مثبتة ببينات وحقائق ووقائع، وإصرارهم على سلوك الطرق المؤدية لذات الجحيم، رغم تعدد التجارب، وصفر الانجازات، لأنهم لا يقرأون، ولا يستهدون بأحكام وخلاصات تجارب العقول الإنسانية. والأفظع استقواء أصحاب هذه المفاهيم بتفوهات أعداء الوطن على أبناء الوطن. وأم النكبات هجرة (الوطن) من عقول وقلوب وثقافة أهله، والقناعة بأن لا قيمة لإنسان الوطن عند أصحاب هذه المفاهيم المتحجرة قلوبهم، والمتجلدة ضمائرهم، فقائمة أرقام ضحاياهم مفتوحة بلا نهاية، مباحة، محللة، محببة، رغم الآلام والمآسي التي إذا عرضت على محيطات لجفت من قسوتها. وكأن السياسي في الصورة النموذجية عن مسبب هذه النكبات أن يكون سيافًا، يتلذذ برؤية الدماء المسفوكة، حتى لو كانت رقبة أخيه أو ابنه هدف سيفه. فدون الإنسان المتوازن، ستختل حتمًا ثلاثية الوطن: الأرض والشعب والقانون.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها