قد يختلط على الجيل الفلسطيني الراهن سؤال النكبة، وبالتحديد الجيل الموجود الآن في قطاع غزة، لأنه يعيش واقعًا هو أسوأ بكثير مما قرأه أو سمعه عن نكبة عام 1948، هو يعيش في مساحة ضيقة جدًا والسماء من فوقه تمطر قنابل وصواريخ بلا انقطاع، لا وقت لديه أصلاً لأن يفكر في النكبة الأولى، هو يفكر اليوم بالنجاة، أن يبقى على قيد الحياة، وإذا نجح لن يجد ما يأكله أو يشربه وعليه أيضًا أن يؤمن لأطفاله الغذاء، بمعنى أن من في غزة يعيشون دقيقة وأخرى، وبالتالي سؤال النكبة بالنسبة لهم، هو سؤال النجاة من النكبة التي هم فيها.
أما المقصود بالجيل الراهن هم الفلسطينيون الذين تتراوح أعمارهم من 18 إلى 30 عامًا، وهم الجيل الثالث بعد النكبة، الذين يعيشون النكبة الجديدة التي تدور فصولها البشعة في قطاع غزة وبدرجة أقل في بعض مناطق الضفة.
كيف يفهم هذا الجيل النكبة الأولى، وهل يسهم هذا الفهم في جعل ما يجري في قطاع غزة مفهومًا أكثر لديه، وكيف يمكن أن يوصفه ويشرحه؟.
الجيل الذي جاء بعد النكبة وعاش تداعياتها المباشرة، ربما يدرك أكثر من غيره بأن ما يحصل في غزة هو نكبة أشد قسوة وخطرًا إنسانيًا سياسيًا من النكبة الأول، وهذا سيوضح لاحقًا. أما الجيل الثالث، فإنه الأكثر معرفة منه، الذي بالفعل قرأ واطلع بما يكفي على النكبة الأولى فإنه بالتأكيد سيكون أقرب وأكثر إدراكًا بأن ما يجري في قطاع غزة هو نكبة حقيقية وليس شيئًا آخر.
وهنا يأتي سؤال آخر وهو يتعلق بالكيفية التي شكل خلالها الشعب الفلسطيني ذاكرته الجماعية بخصوص نكبة عام 1948، وبالتي كيف تصوغ هذه الذاكرة موقفه من ما يجري في غزة منذ السابع من أكتوبر العام 2023؟.
المشكلة في الذاكرة الجماعية الفلسطينية بخصوص النكبة الأولى إنها ذاكرة غير نقدية، فهي استندت إلى مسلمات لا تصل إلى درجة المعرفة الدقيقة للأسباب الذاتية الخاصة بالحركة الوطنية الفلسطينية قبل عام 1948، الاخفاقات الذاتية التي كانت سببًا من أسباب حصول النكبة، فلا يجوز أن نلوم المؤامرة الدولية، ولا نوجه اللوم لأنفسنا، وأن ندرك أين أخطأنا وأين أصبنا، غياب الذاكرة النقدية يؤدي مرة أخرى إلى استنتاجات خاطئة بالنسبة للنكبة الحالية.
ولا يلاحظ البعض أن حماس، على سبيل المثال، أخطأت في قرار السابع من أكتوبر فهي لم تلاحظ بدقة ميزان القوى، ولا مدى قوة الدعم الأميركي القوي لإسرائيل.
أسئلة كثيرة تطرح اليوم من أهمها سؤال يتعلق بالأسباب الحقيقية التي قادت لحدوث نكبة 1948، كيف نحدد الأسباب الحقيقة للنكبة الحالية؟.
قد يكون من الصعب أن يقوم الشعب الفلسطيني بإعادة قراءة متأنية ونقدية لتاريخنا منذ وعد بلفور عام 1917 وحتى الآن، لأنه لا يزال يعيش فصول النكبة بكل ثقلها ومآسيها، وهو يعيش في ظل حرب مستمرة، وبالتالي لم يتسنَ له أن يكون أكثر موضوعية، وأن يمارس النقد الذاتي بعمق، من هنا يصعب بالتحديد على الجيل الثالث أن يدرك ما هو الخطأ وما هو الصواب لما يجري في غزة، لأنه مستعجل الخلاص.
من هم في قطاع غزة، وبغض النظر من أي جيل هم، فإنهم يجمعون على أنهم يعيشون فصول نكبة مدمرة إنسانيًا وسياسيًا. القطاع اليوم مدمر بالكامل، وما دامت الحرب مستمرة، وما دامت في إسرائيل حكومة متطرفة وفاشية، فإن خطر التهحير لا يزال قائمًا، كما أن التهحير قد يحدث بشكلٍّ ناعم إذا توقفت الحرب وتأخرت عملية إعادة البناء.
والنكبة الحالية لا تجري في غزة وحسب بل هي تجري بأساليب أخرى في الضفة، سواء عبر عمليات عسكرية مباشرة دمرت حتى الآن معظم مخيمات جنين وطولكرم ونور شمس، والنكبة في الضفة هي في سيل القوانين والقرارات التي تصدر يوميًا في إسرائيل حول ضم مباشر وغير مباشر لمناطق في الضفة، وصلت إلى أن يمنح للمستوطنين الحق في شراء أرض وعقارات داخل المدن الفلسطينية.
سؤال النكبة هو سؤال الماضي الممتد إلى ما قبل 1948، وسؤال الحاضر لأن الشعب الفلسطيني لا يعيش أحد فصول النكبة الأولى بل هو يعيش نكبة جديدة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، والأساس في كل ذلك هو أن ننظر للتاريخ والحاضر بعين المعرفة النقدية.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها