تُعدّ المنظمات الدولية، وفي مقدمتها منظمة الصحة العالمية (WHO)، أحد أبرز ملامح الحوكمة العالمية، وقد أُنيط بها دور محوري في قيادة الجهود الإنسانية والصحية عبر العالم، خصوصًا في أوقات الأزمات كجائحة كوفيد-19. لكن خلف الخطاب المعلن عن الشفافية والمساءلة، تتكشف حقائق صادمة عن سوء الإدارة، وتضارب المصالح، والفساد المنظم.

- تجاوزات صارخة داخل منظمة الصحة العالمية

في وثيقة مسرّبة مؤخرًا، كشفت مصادر من داخل المنظمة عن منح فرانك غرينييه، أحد كبار الموظفين، تعويضًا نهاية خدمة يقدّر بـ550,000 دولار أميركي، رغم شبهات حول توظيفه شريكًا عاطفيًا مشرفًا عليه مباشرة، دون فتح أي تحقيق رسمي في الأمر. وتُظهر الوثيقة ذاتها أن هذه المدفوعات صادقت عليها شخصيات بارزة في المنظمة، مثل مايك رايان وباتريك كرونين، دون شفافية أو تدقيق.

كما أشارت الوثائق إلى أن بروس أيلوارد، المستشار البارز، لم يسجّل إجازاته طيلة عشر سنوات، ويستعد لقبض أكثر من 300 يوم كرصيد إجازة نقدي عند تقاعده العام المقبل، في مخالفة للضوابط الداخلية.

- غياب الحوكمة وتفشي المحسوبية

من الأمثلة البارزة على ضعف الحوكمة، ما حدث في وحدة اللقاحات تحت إشراف الدكتورة كيت أوبراين، حيث جرى– وفق شهادات داخلية– توظيف عدد من الأصدقاء والأقارب، فيما أُقصي موظفون أكفاء بسبب مواقفهم المستقلة.
وفي مخالفة صريحة للأعراف التنظيمية، قام الدكتور تشيكوي إهيكويزو، المدير الإقليمي المؤقت لإفريقيا، بتعيين مدراء قبل أسبوعين فقط من انتخاب مدير إقليمي دائم، في خطوة اعتبرها مراقبون "فخًا إداريًا" يقيّد الإدارة القادمة.

- المساءلة ضرورة لا ترف

وفق تقرير صادر عن مكتب خدمات الرقابة الداخلية التابع للأمم المتحدة (OIOS) لعام 2023، فإن "الضعف في أنظمة الرقابة الداخلية والموارد البشرية في بعض الوكالات الأممية يجعلها عرضة للمحاباة وسوء استخدام الموارد". وأضاف التقرير: أن "غياب إجراءات التأديب الرادعة يعزز ثقافة الإفلات من العقاب".
من هنا، تبرز الحاجة إلى تفعيل أدوات الرقابة الإدارية والقانونية على هذه المنظمات، من خلال:

- تشكيل هيئات مستقلة للتدقيق والمساءلة.

- فتح مسارات قضائية داخلية وخارجية لمحاسبة المسؤولين عن التجاوزات.

- إلزام المنظمات الدولية بالشفافية المالية الكاملة.
سنّ معايير واضحة للتوظيف والترقية، خاضعة للرقابة متعددة الأطراف.

- تمكين جمعيات الموظفين من أداء دورها الرقابي دون ترهيب أو تدخل.

- إن استعادة ثقة العالم تبدأ من المساءلة

ما يجري داخل منظمة الصحة العالمية وغيرها من الهيئات الأممية ليس مجرد تجاوزات إدارية، بل أزمة قيم وهيكلة، تقوّض شرعية هذه المؤسسات وتُفرغ عملها من مضمونه الأخلاقي. إن الشعوب التي تُركت تواجه الفقر والمرض والحرمان، تستحق من هذه المؤسسات أن تُصلح ذاتها، لا أن تتحوّل إلى شبكات نفوذ ومنافع مغلقة.
وحدها المحاسبة والحوكمة النزيهة قادرة على إنقاذ هذه المنظمات من التآكل الذاتي، واستعادة ثقة العالم بها كقوى فاعلة للخير، لا كرموز للفساد المستتر.