تحل على البشرية اليوم التاسع من أيار، الذكرى الثمانون للانتصار على النازية، التي دفعت الشعوب الأوروبية وحركات مقاومتها الوطنية ثمناً باهظاً من أرواح أبنائها ومقدراتها لدفن ذلك الوحش النازي الذي أطل برأسه قبل أكثر من ثمانين عاماً، معلناً عداءه للشعوب وحقوقها ولعجلة تطورها الطبيعي. اليوم مشاركة فرق عسكرية رمزية من دول مختلفة بما فيها الصين ومصر وغيرها من دول الشرق باستعراض يوم النصر بالساحة الحمراء بموسكو هو مؤشر على اتساع علاقات الاتحاد الروسي، والدور المتنامي لتلك الدول في مواجهة هيمنة الولايات المتحدة والنظام الدولي أحادي القطب، نحو عالم متعدد الأقطاب يكون اكثر عدالة.

من الدروس العميقة لهذا الانتصار الذي حققه الجيش الأحمر بدخوله برلين عام 1945، يبرز إدراك حقيقة لا تقبل الجدل وهي أن تحديد مصير العالم في المرحلة المعاصرة لتطور البشرية هو مسؤولية مشتركة وجماعية لا تتجزأ.

اليوم، تتحمل جميع الشعوب مسؤولية تاريخية تجاه الأجيال القادمة، للحفاظ على نظام دولي متوازن، قائم على المبادئ والقيم التي كرسها ذلك الانتصار  من الحرية، والديمقراطية، والعدالة، حق الشعوب في تقرير مصيرها والمسار المستقل لتطورها. وهي قيم تتطلب تعزيز الثقة المتبادلة والتضامن والمساواة بين الشعوب، والبحث عن مستقبل مشترك للبشرية يقوم على مناهضة الاستعمار والعنصرية والفوقية العرقية أو الدينية، والسعي إلى تعزيز الأمن والسِلم الدوليين والتقدم الإجتماعي والاقتصادي المشترك.

غير أن هذه القيم، وبالرغم من تأصيلها التاريخي، تعرّضت لتشويه وتراجع، على يد قوى كبرى في مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية، التي صادرت مضامينها وأعادت إنتاج الحروب بوجوه متعددة في مختلف مناطق العالم. فقد شكل تحالفها مع بقايا النازية الجديدة وشراكتها الكاملة مع دولة المشروع الاستيطاني الإحلالي الذي أنشأته بالشراكة مع بريطانيا، دليلاً دامغًا على هذا التراجع خصوصًا في ظل استهدافها الممنهج اليوم لشعبنا الفلسطيني ومشروعه الوطني في التحرر والاستقلال.

اليوم، القيم التي كان يُفترض أن تكون الركيزة الأخلاقية والسياسية للنظام العالمي المعاصر، تُنتهك على يد من يفترض أنهم حماتها. وبدلاً من رفض إيديولوجيات النازية والفاشية وكل النظريات المعادية للإنسانية، نشهد تصاعداً في تغول الفكر النيوليبرالي، وتحالفه مع الحركة الصهيونية، التي سبق أن أدانتها الجمعية العامة للأمم المتحدة واعتبرتها شكلاً من أشكال العنصرية قبل أن تتراجع تحت ضغط متغيرات دولية في حينه.

ما تقوم به اليوم الولايات المتحدة وبريطانيا وقوى اليمين الشعبوي في أوروبا، وتحالفهم مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، يعبر عن ارتداد كامل لنتائج الحرب العالمية الثانية. إذ تستند هذه القوى إلى مرتكزات فكرية تعبر عن روح نازية وفاشية جديدة، قائمة على الاستيطان والعنصرية والفوقية والتطرف القومي الديني، تساندها قوى رأسمالية صهيونية مسيحية بالولايات المتحدة وأوروبا، تسعى لإعادة إنتاج ما حاولت تحقيقه النازية الألمانية والإيطالية وحلفاؤها من اضطهاد للشعوب الأخرى.

واليوم، تتجلى تلك السياسات بوضوح في ما يتعرض له شعبنا الفلسطيني من محرقة وإبادة جماعية وتطهير عرقي وتجويع وتهجير قسري. ومن بين الأدوات الجديدة لذلك، يأتي الحديث الأميركي الزائف والمتكرر عن "حلول إنسانية" لغزة ما بعد الحرب، متجاهلاً بشكل كامل الحقوق السياسية والوطنية الفلسطينية. ويوازي هذا الحديث ضغط أميركي متواصل على كل من الأردن ومصر لفتح أبواب التهجير إليهما، في محاولة لفرض نكبة مستمرة على شعبنا الفلسطيني وتجريدهم من حقوقهم الوطنية السياسية، عبر تحويل غزة إلى مكان غير قابل للحياة، تمهيدًا لفرض حلول إقليمية تطيح بالثوابت.

كل ذلك يحدث ضمن سياسات متخبطة ومخادعة من واشنطن، تستند إلى دعم غير مشروط لدولة الاحتلال، ليس فقط بذريعة "أمن إسرائيل"، بل لضمان دورها الوظيفي كموقع متقدم لمصالح الولايات المتحدة في المنطقة رغم الخلافات اللحظية التي يتحدث عنها ترامب اليوم حول قطع إتصالاته مع نتنياهو، لحماية مشروعهم المشترك الذي نشأ بتحالفات عقائدية واستعمارية قديمة. هذا المشروع تأسس على تجاهل متعمّد لحل "المسألة اليهودية" في أوروبا، واستخدام "الوعد الديني"  كغطاء لمخطط استعماري استيطاني في أرض فلسطين، فزيارة السفير الأميركي لدى إسرائيل لإحدى المستوطنات يوم أمس لرؤية "البقرات الحمراء" هو مؤشر ودليل على هذا التماهي.

ورغم مرور ثمانية عقود، فإن قوى الهيمنة العالمية لا تزال تمارس سياسات فرض الأمر الواقع، للحفاظ على نظام أحادي القطب، يقوض إمكانات بناء نظام دولي تعددي عادل. وتسهم مشاركة هذه القوى في جرائم الاحتلال، أو صمتها، في تكريس إسرائيل كنظام مارق فوق القانون الدولي، وتأكيد ازدواجية المعايير التي تكيل بها القضايا أمام المجتمع الدولي.

إن دروس الانتصار على النازية، الذي كلف شعوب الاتحاد السوفييتي وحدها آنذاك نحو ثلاثين مليون شهيد، فضلاً عن ملايين الضحايا من شعوب العالم وخاصة الأوروبية، تؤكد ضرورة وقف الحروب المباشرة أو بالوكالة ضد الشعوب المستضعفة.
وتُحتم على البشرية الوقوف ضد سلطة رأس المال السياسي المتوحش، ورفض صناعة أسلحة الدمار الشامل والعمل على إزالة بؤر التوتر وتعزيز قوى السلم والتقدم ومنظمات العدالة، ومبادئ المساواة والحريات والكرامة الإنسانية، بدلاً من اضطهاد الشعوب وممارسة القهر والاحتلال والعنصرية.

إلا أن الأيام القادمة لن تكون كالسابق، فالتاريخ لا يعرف السكون، وشعوب الأرض مطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضى بالنضال من أجل انتصار القيم الإنسانية، وبناء عالم جديد أفضل وخير دليل على ذلك هو تصاعد حركات التضامن مع شعبنا في مختلف شوارع العالم. وإن من أهم دروس الأنتصار على النازية بعد ثمانين عاماً، أن لا قوة مهما بلغت جبروتها تستطيع كسر إرادة الشعوب وحقوقها العادلة. وشعبنا الفلسطيني بإدراكه للرؤية وتوحيد قواه وإرادته السياسية الحُرة والمستقلة قادر على الانتصار.
وكما قال شاعرنا الراحل محمود درويش، "كل نهر، وله نبع ومجرى وحياة يا صديقي. أرضنا ليست بعاقر، فكل أرض ولها ميلادها، ولكل فجر وله موعد ثائر".