تكشف دراسة أمنية صدرت عن معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي في نهاية نيسان/ أبريل 2025 حجم المأزق الإسرائيلي في التعامل مع قطاع غزة، إذ تعرض أربعة بدائل للتعامل مع الواقع في القطاع، تصفها جميعاً بأنها "قاتمة". تشمل هذه البدائل: التهجير القسري للسكان، فرض حكم عسكري مباشر، إنشاء سلطة فلسطينية "معتدلة" مدعومة دولياً، أو الإبقاء على الوضع القائم كما هو. غير أن هذه الخيارات لا تعكس رؤية استراتيجية بقدر ما تكشف عمق العجز الإسرائيلي في ابتكار حلول واقعية قابلة للتطبيق تُفضي إلى استقرار حقيقي.

يُعيد طرح خيار التهجير القسري، حتى في سياق "دراسة نظرية" إحياء الخطاب الاستعماري الذي يرى في الأرض الفلسطينية مساحة قابلة للتطهير السكاني عند الحاجة، متجاهلاً أن العالم لم يعد يتسامح مع سياسات الترحيل الجماعي تحت أي ذريعة، وأن هذا الخيار، إلى جانب كونه غير أخلاقي، مستحيل التحقيق من الناحية العملية في ظل المعادلات الإقليمية والدولية الراهنة.

أما فرض الحكم العسكري المباشر على غزة، لا يعني سوى إعادة إنتاج الاحتلال بصورته الأكثر وضوحاً وفجاجة، مع ما يحمله ذلك من تداعيات خطيرة على الصعيدين الإقليمي والدولي، إذ من شأنه تعميق عزلة إسرائيل السياسية وزيادة التوترات مع المجتمع الدولي. وهذا الخيار لا يفتح باباً للحل، بل يعزّز بيئة الانفجار المستمر ويعيد تغذية أسباب الصراع. والأهم من ذلك، أنه يعكس فهماً قاصراً لطبيعة غزة، التي ليست مجرد ملف أمني يمكن ضبطه بالقوة، بل ساحة صراع سياسي، وهوياتي، واجتماعي معقّد ومتجذّر، لا يمكن احتواؤه أو السيطرة عليه عبر الحلول العسكرية وحدها.

يبدو الخيار الثالث، والمتمثل في إقامة حكم فلسطيني "معتدل" بدعم دولي متزناً من الناحية النظرية، لكنه في جوهره طرح وهمي، حيث لا يمكن فرض شرعية سياسية على مجتمع يعاني من الاحتلال والانقسام والحصار ويعيش حالة من فقدان الثقة، دون أن تكون هناك معالجة سياسية حقيقية لجذور الصراع. كما أن الأطراف الدولية والإقليمية التي يُفترض أن ترعى مثل هذا المشروع، لا تملك رؤية موحدة، بل إن بعضها يساهم في تعميق الأزمة بدل حلها.

وبينما يبدو الإبقاء على الوضع القائم مغرياً لإسرائيل على المدى القصير، إلا أنّه ينطوي على مخاطر استراتيجية، إذ يعني استمرار دورة التصعيد والانفجارات الدورية، وتآكل الردع، وتثبيت واقع هش لا يمكن أن يشكل أساساً لاستقرار طويل الأمد. بمعنى أن هذا الخيار لا يعكس إلا إدارة مؤقتة للأزمة دون أي أفق للحل.

وفي ختام الدراسة، يُقترح خيار يوصف بأنه الأكثر واقعية، يقوم على الجمع بين التصعيد العسكري والعمل السياسي لإيجاد بديل لحركة حماس بدعم عربي ودولي. غير أن هذا الطرح أيضاً لا ينجو من الإشكاليات، إذ يختزل حركة حماس في بعدها العسكري ويتجاهل حضورها المجتمعي والسياسي المتجذّر، ويكرّس النظرة الأمنية الضيقة التي حكمت علاقة إسرائيل بغزة على مدى العقود الماضية.

ما يلفت الانتباه في هذه الدراسة بشكل خاص هو الإقرار، ولأول مرة، بأن القضاء على حماس عبر الوسائل العسكرية وحدها أمر غير ممكن، إلى جانب التأكيد على أن إعادة إعمار غزة ضرورة لا غنى عنها لتحقيق أي شكل من أشكال الاستقرار في المستقبل. إلا أن هذا الإقرار لا يعكس تحولاً جوهرياً في النظرة الإسرائيلية، بل يبدو أقرب إلى محاولة لتجميل إدارة الأزمة عبر إعادة تأهيل ساحة الصراع، لا السعي إلى حلها من جذورها. فإعادة الإعمار، ما لم تُرافق بمسار سياسي حقيقي يعالج القضايا الجوهرية وعلى رأسها الاحتلال، ستظل مجرد خطوة شكلية، تعيد إنتاج الأزمة وتُمهّد لجولات تصعيد جديدة بدل أن تضع حداً لها.

في جوهرها، لا تقدّم هذه الدراسة حلولاً حقيقية، بل تعكس مأزق دولة استعمارية تائهة في حسابات القوة، عاجزة عن الاعتراف بأن الزمن تغيّر، وأن شعبنا لم يعد قابلاً للكسر أو الإخضاع. ولعلّ ما تُسوّقه المؤسسة الأمنية الإسرائيلية لا يتعدّى كونه محاولة جديدة للالتفاف على الحقيقة التي طالما تجاهلتها: لا يمكن إخضاع غزة، ولا يمكن تصفية القضية الفلسطينية عبر الخيارات الأمنية أو الهندسة السياسية المفروضة من الخارج. فالحل يبدأ فقط من لحظة الاعتراف الصريح بحقوقنا كشعب، بحقنا في الحرية وتقرير المصير، وفي رفع الحصار وإنهاء الاحتلال. ودون ذلك، ستبقى كل البدائل مجرد محاولات لإدارة الصراع، لا لإنهائه، ومحاولات لتأجيل الانفجار القادم، لا منعه.
هذه هي الحقيقة التي لن تُمحى، مهما تغيّر الخطاب أو تنوّعت الاستراتيجيات.