كم كانت مصادفات الحياة صعبة وقاسية وذات ألم وجيع، عاشها الشاعر الفلسطيني أحمد دحبور، فهو لم ير ما يريد أن يراه في حيفا لأنه خرج منها قسراً وهو ابن سنتين ليركب عربة يجرّها حصان بطيء، نحو أمكنة آمنة، لا قنابل فيها، ولا رائحة بارود.

عاش في مخيم العودة في حمص/ سورية، وتعلّم في مدارس الأونروا، وكان والده أحد المعروفين في المخيم، مع أنه لم يكن مهندساً ولا معلّماً، ولا مختاراً، ولا عازف أرغول،  كان غاسل الموتى في المخيم، كلما أوقد الحزن وقيدته، فيتردد اسم والده، ويسعى الناس إليه لكي يطوي أحزانهم، لذلك عاش أحمد دحبور طفولته ومراهقته وهو خدين الأحزان التي تسوقها الرياح إلى بيتهم الصغير في المخيم، وعلى والده أن يبددها مثلما يبدد الهواء الشديد رماد المواقد، فأبوه هو من يطلق الأموات إلى مسجد المخيم، كيما يذهبون من هناك إلى لحودهم آمنين.

وحمص، رغم أنها مدينة كبيرة، إلا أنها في عرف أهلها ليست سوى بيت واحد من عادات وتقاليد وألطاف ودفء ومودات. حيط المسجد يلاصق حيط الكنيسة، وشجرة الأكادينيا في بيت أم إلياس تعانق الفضاء الرحب مع شجرة الأكادينيا في بيت فاطمة الرشدان، وصباح الخير حين تقال في ساحة الساعة يصل تردادها إلى كل بيت، وخبر صغير يذاع عند مفرق حمص/ تدمر، يصل إلى باحة كل بيت، عنيت أنّ كل شيء في حمص هو محط اهتمام الحماصنة، وكان أحمد دحبور  واحدا منهم، فقد قال الشعر في مخيم العودة، فسمع به موريس قبق شاعر الحداثة في حمص، فالتقاه أحمد دحبور الشاعر الشاب ابن المدرسة الثانوية فرفعه تقديراً على كف الاعتزاز. لقد التقاه في رواق الكنيسة ليس لقراءة قصيدة، ولا للتهنئةعلى سطر شعري قاله أحمد دحبور فغوّر محبة في نفس الشاعر، وإنما التقاه في الكنيسة ليباركه أمام راعي الكنيسة الشاعر أيضاً، موريس قبق كان عرّابه الذي عرفه إلى شعراء حمص أهل الشهرة والمكانة، وأحمد دحبور، أخذ بعض دواوين محمود درويش وسميح القاسم، وسالم جبران، وتوفيق زياد، إليه، وقال له: هؤلاء أهلي.

أحمد دحبور درس المرحلة الثانوية في أجواء مسيحية، وبرفقة العارفين بالكتاب المقدّس، وقصص القديسين، فأحس بالامتلاء والغنى، وقد وافته التواريخ، والأمكنة، والقصص، وتسابق إليه الخيال والواقع، واقتربت الأرض من السماء كثيراً، ودنت السماء من الأرض كثيراً فتجلّت ماهية الرياح، والغيوم، والطيور، والأمطار.

أحمد دحبور طبع قصيده في كتاب، وهو في الثامنة عشرة من عمره، وهو في آخر سنواتالمدرسة الثانوية، وتبارى العارفون بالشعر  لتقريظه، وفي مقدّمتهم موريس قبق أبدى أسماء شعراء الحداثة المتجلية باشتقاقاتها ورموزها آنذاك.

وأحمد دحبور، مضى وهو ابن عشرين سنة إلى غربة جديدة، توازي في ثرائها، ثراء أحزان المخيم التي كانت أشبه بجرس يردد صيحة طير سماوي: حيفا حيفا، عكا عكا، صفد صفد. مضى أحمد دحبور إلى إربد ثم إلى عمّان ثم إلى الأغوار، وقرب ضفة النهر المقدّس، نهر الأردن، هوى جالساً قرب زور القصب وبكى، وارتجى، فطار حفيف القصب ببكائه ورجائه كي يعبر النهر إلى الضفة المرتجاة، مضى أحمد دحبور إلى عالم جديد، هو عالم الفدائية، وهناك كتب قصيده الخالد /حكاية الولد الفلسطيني/ التي هي حكاية الألم والأمل، حكاية التاريخ والجغرافية، وحكاية افتكاك القوة لكل مباهج الروح الفلسطينية. وطار اسم أحمد دحبور شاعراً، يقول شعراً مختلفاً، يحمل رسائل المنفى الشعرية المختلفة: آتٍ ويسبقني هواي، آتٍ وتسبقني يداي، فأخذ محمود درويش، وسميح القاسم، وسالم جبران، وتوفيق زياد  شعره إلى صدورهم، وقالوا هذا شعر أهلنا، تماماً مثلما قال أحمد دحبور ابن مخيم العودة في حمص، لـ موريس قبق، هؤلاء: محمود درويش، وسميح القاسم، وسالم جبران، وتوفيق زياد، هم أهلي.

وأحمد دحبور، الشاعر الشاب ابن المدرسة الثانوية، وحين علم أنّ راشد حسين، ابن قرية مصمص، ومعين بسيسو ابن غزة، يعملان في جريدة الثورة السورية، استلف أجرة ركوبه من حمص إلى دمشق، وسافر ليلاً، ومن دون أن يخبر أباه، غاسل موتى المخيم، إلى دمشق ليباكرها صباحاً، كيما يرى راشد حسين، ومعين بسيسو، ويا للحظ الذي أدار له ظهره، فقد جاء إلى دمشق، وإلى جريدة الثورة، في يوم عطلتها، فلم يرَ راشداً ولا معيناً، فغادر إلى كراج الباصات، ومعه سندويشة فلافل، لم يكملها حتى وصل إلى حمص لأنّ دموعه حالت بينه وبين الانتهاء منها.

وأحمد دحبور التقى محمود درويش في بيروت، في السبعينيات، فقصّ عليه عشقه لشعره، وقصّ محمود درويش عليه خبر أول انتباهة لقصيده في مدينة حيفا، وقد ظنوه كبيراً في العمر، كما أخبره باتفاقهم، هو وسميح القاسم، وأميل حبيبي، وأميل توما، على نشر قصيده في جريدة الاتحاد.

في بيروت، وتونس، وغزة، ورام الله، لم يفترق الاثنان: محمود درويش وأحمد دحبور، وطوال حياتهما، ورغم دروب الشعر ونوافذه وأبوابه وأمزجته المختلفة والمتعددة، لم يفترقا، ظل محمود درويش يعاتب بعد أحمد دحبور وهو يعيش في غزة، وظل أحمد دحبور يبكي قصيد محمود درويش فرحاً وابتهاجاً بندرته وغرامة الحداثة فيه.

كل هذا الذي سلف، كان مصادفات بعضها وجيع، وبعضها الآخر لا يخلو من خيط ناحل شفيف من الرضا لم تجهر به النفس ولا الأيام، خيط يمر من ثقب ضيق لا يراه سوى ضوء الشعر وحده.

أحمد دحبور، وفي ذكراه، هو الشاعر الذي نواقفهليبدو تاريخ البلاد الفلسطينية العزيزة، وليبدو مجد أهلها، مثلما تبدو جغرافية البحر والنهر والأغوار والصحارى، وجغرافية المسرات والأحزان والخطا التي افترعت دروباً من الشوق لأشجار البرتقال والجميز معاً، وأثّثت بيوتاً للكتب والفنون معاً، وباهت بحقول القمح والسمسم وعبّاد الشمس معاً، ورفعت رايات الحضارة فوق القناطر الحجرية العالية التي آخت الأزمنة.