تحللت مؤسساته وقيمه وتقوضت صلاحيته وقدرته على البقاء.
هكذا بدت صورة النظام الدولي في اختبار غزة.
كان العجز شبه مطلق أمام أبشع الجرائم ضد الإنسانية في العصور الحديثة.
في غضون أربع سنوات توالت ثلاثة اختبارات كاشفة لمدى تدهوره وعجزه عن الوفاء بمتطلباته.
كانت جائحة «كوفيد 19» اختباراً جدياً لمدى كفاءة المنظومة الصحية الدولية وقدرة النظام الدولي على التساند الإنساني في مواجهة الموت الجماعي، الذي ضرب بلا رحمة مناطق واسعة من العالم شاملة أوروبا والولايات المتحدة.


أثناء الجائحة ضرب التفكك بنية الاتحاد الأوروبي، الذي عجز عن إبداء الحد الأدنى من التضامن بين أعضائه.
في الوقت نفسه لم تبد الولايات المتحدة أي قدر من الاستعداد لمد يد العون للحلفاء المفترضين، ولم يكن هناك أي دور يعتد به للأمم المتحدة.
كان ذلك مؤشراً على قرب انهيار النظام الدولي، الذي تمسك واشنطن بمقاليد القوة فيه منفردة منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانقضاء الحرب الباردة.
ثم تعرض النظام الدولي لاختبار ثان في الحرب الأوكرانية.
طرح على نطاق واسع سؤال: لمن تؤول قيادته وما طبيعة حسابات وتوازنات القوة فيه؟ لكنه ظل معلقاً في فضاء الحرب التي تمددت وأنهكت بتداعياتها العالم كله.
لا الولايات المتحدة كسبت رهاناتها على إذلال موسكو، ولا روسيا رفعت الرايات البيضاء رغم العقوبات القاسية التي فرضت على اقتصادها المنهك.


في اختبار أوكرانيا لوّحت الولايات المتحدة بسلاح العقوبات أمام بكين، كما باستعراضات القوة في المحيطَين الهادئ والهندي، حتى تردع أي تدخل صيني محتمل، اقتصادياً وتسليحياً يدعم موسكو.
في اختبار غزة وجهت رسائل مشابهة لمنع أي طرف إقليمي من «استغلال الوضع» بعد صدمة السابع من أكتوبر.
في الاختبارين لم تنجح الولايات المتحدة، رغم ما استثمرته من عناصر قوة فائقة تخطيطاً وتمويلاً وتسليحاً، في حصد ما طلبته من أهداف.
في غزة تضررت صورتها بالشرق الأوسط كما لم يحدث من قبل.
كانت تلك خسارة إستراتيجية لها تبعات على مصالحها في المنطقة.
بقدر مماثل تضررت قيادتها الفعلية للمنظمة الدولية حيث أبقتها في وضع شلل وعجز.


لم يكن لجوء الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، إلى استخدام المادة 99 من ميثاقها، التي تخوّله تنبيه مجلس الأمن إلى أي مسألة يرى أنها قد تهدد حفظ السلم والأمن الدوليَّين سوى احتجاج على تعطيل صلاحيات المنظمة الدولية بجميع مؤسساتها في وقف الإبادة الجماعية، أو التخفيف من وطأة المأساة الإنسانية المروعة.
الخطوة بذاتها سابقة تاريخية، والمعنى أن الأمور أفلتت وصلاحيات منظومة الأمم المتحدة تعطلت.
أصابع الاتهام نالت الولايات المتحدة قبل أي طرف دولي آخر بحكم قيادتها للنظام الدولي كله.


الأفدح انهيار القيم المؤسسة للأمم المتحدة في حفظ الحريات وحقوق الإنسان وضمان حق الشعوب في تقرير مصيرها.
كان استهداف الصحافيين في غزة وجنوب لبنان داعياً إلى غضب حقوقي ومهني واسع دون أن يكون ممكناً فتح أي تحقيق دولي يحاسب ويردع.
وصلت المأساة إلى ذروتها في تعطيل وكالات الأمم المتحدة المتخصصة عن أداء مهامها، خاصة منظمة الصحة العالمية، ومنظمة الأغذية والزراعة، والمحكمة الجنائية الدولية.
المستشفيات حوصرت وقصفت، وحرب التجويع اتسعت إلى حدود غير مسبوقة، وأي حقوق إنسانية قوضت تماماً دون أن يرتفع صوت مؤثر للمنظمة الدولية يضفي عليها صدقية واحتراماً.
قصفت مكاتب ومدارس «الأونروا»، التي أنشئت خصيصاً لغوث اللاجئين الفلسطينيين بعد نكبة 1948، دون صرخة احتجاج تلوح بإنزال العقاب.


بقوة الفيتو الأميركي ونفوذه، فشل مجلس الأمن في استصدار قرار يوقف الحرب.
رغم ذلك كله، لم تتمكن إسرائيل بعد مرور أكثر من شهرين من إحراز علامة نصر واحدة.
لم تنجح في اجتثاث «حماس» وتحرير الأسرى والرهائن الإسرائيليين بالقوة دون دفع أثمان سياسية باهظة.
فاوضتها عبر وسطاء قبل أن تقطع الهدن وتعود إلى الحرب.
مع كل إخفاق في المواجهات المباشرة تصعد من ضراوة استهداف المدنيين.
العالم لم يعد يحتمل تمديداً للحرب، التي أسقطت عشرات آلاف الضحايا المدنيين من قتلى ومصابين ومفقودين تحت الأنقاض.
حسب وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، فإنه يتعين على القادة الإسرائيليين إنهاء الحرب خلال أسابيع لا أشهر.


الأعباء السياسية للحرب على غزة نالت من مكانة الولايات المتحدة وفرص جو بايدن في تمديد ولايته لفترة ثانية بانتخابات 2024.
في إجابة عن سؤال: ماذا بعد؟ طرحت أفكار للتداول بعضها تحليق في الأوهام مثل الخروج الآمن للمقاومة على غرار ما حدث العام (1982) بعد احتلال بيروت وترحيل منظمة التحرير الفلسطينية إلى تونس.
الوضع هذه المرة يختلف تماماً، فالمقاومة تحارب على أرضها لا على أرض أخرى.
حمل مشهد تعرية مدنيين لإذلالهم بزعم انتمائهم لـ»حماس» والتوسع في القتل العشوائي بدم بارد في الضفة الغربية رسالة عكسية عنوانها: القتال حتى آخر شهيد.
بقوة الصور تبددت الفوارق شاسعة بين معاملة الأسرى الإسرائيليين والأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية.
كانت تلك هزيمة أخلاقية كاملة.


بدا طرح سؤال «اليوم التالي» على قدر من التعجل: من يملأ فراغ الأمن والسياسة في غزة؟
أثبتت الحرب أن الأمر لن يكون يسيراً على النحو الذي جرى تصوره من قبل، فالمقاومة فكرة أصيلة وليست مقحمة على المجتمع الفلسطيني.
لا إعادة احتلال غزة مقبولة أميركياً وأوروبيا وعربياً، ولا إنشاء مناطق عازلة تلقى قبولاً من الراعي الأميركي، ولا استبعاد السلطة الفلسطينية واستبدال محمود عباس برجل آخر حسب مواصفات الاحتلال يمكن أن يقبله الشعب الفلسطيني رغم أي اعتراضات واسعة على أداء السلطة.
أكدت التظاهرات، التي عمّت العواصم والمدن الغربية الكبرى، وداخل الولايات المتحدة نفسها، دعماً وتأييداً للقضية الفلسطينية، التناقض الهائل ما بين مؤسسات دولها والرأي العام فيها.
إنها إشارة تغيير تحت الجلد السياسي.


بصياغة ثانية، إنها إشارة تصدّع جديدة ومنذرة في النظام الدولي.
تقوض ذلك النظام دون أن يستبين ما بعده.
لا الصين بوارد ملء فراغ الدور القيادي ولا تقدر بأي مدى منظور على تكاليفه وأثمانه. يكتفي الصينيون بأدوار المراقبة من بعيد والمواقف المتضامنة دون التورط في الحربين الأوكرانية والفلسطينية.
ولا روسيا مستعدة أن تفتح جبهة صراع جديدة، رغم أنها من أكثر المستفيدين إستراتيجياً من تراجع الحرب الأوكرانية إعلامياً وسياسياً بعد الحرب على غزة.
إننا أمام تحلل كامل في بنية النظام الدولي يؤشر على فوضى واسعة مقبلة دون أن تتبدى أي إشارة على ميلاد جديد بأي مدى منظور.