منذ نشوء وصعود النظام البرجوازي على انقاض نظام الاقطاع في عصر النهضة، وبناء الدولة القومية، وأصحاب رأس المال يسعون لتحقيق أهدافهم في الربح ونهب واستغلال طاقة عمل العمال بأبخس الأثمان، ولتسويغ ذلك، رفع منظروا النظام الجديد شعارات غاية في الذكاء والفطنة، أهمها "الحرية" و"الديمقراطية" و"العقد الاجتماعي" القائم على الشراكة بين الحكام والمحكومين عبر منصة الانتخابات، والذي شكل البوابة لفرض هيمنة وسطوة الطبقة البرجوازية على مقاليد الحكم، التي تمكنت من إخضاع العمال والفلاحين والمسحوقين لسيطرتها، ولمعايير أهدافها في تحقيق الربح البسيط، ثم الربح الاحتكاري مع نمو وتطور الرأسمالية، والذي يسود حتى الآن وفقًا لمرتكزات النظام الامبريالي.

ولم ينحصر تحقيق الربح في نطاق السوق القومي، وإنما امتد لفرض الاستعمار القديم على شعوب ودول العالم، ولكن دون منحها أية حقوق، وحتى الدول والشعوب التي حصلت على استقلالها في مطلع القرن التاسع عشر في أميركا اللاتينية، وفي أواسط القرن العشرين في آسيا وأفريقيا، عاد لها الاستعمار من بوابة الاستعمار الجديد، وتم إخضاعها وتبعيتها للسوق الرأسمالي الغربي. ولاحق الغرب مطلق قائد أو نظام سياسي في أي من القارات المختلفة حاول التمرد والخروج عن عصا الطاعة للنظام الرأسمالي، وانقلب عليه من خلال أدوات مأجورة، أو تم تعيين أنظمة كرتونية، أو تم اغتياله، وحرف بوصلة النظام السياسي، وكان نصيب الوطن العربي من ويلات الغرب عاليًا قياسًا بالانظمة في العالم الثالث.


هذا الغرب تغنى طيلة القرون الخمسة الماضية بمصطلحات "الديمقراطية" و"حرية الرأي والتعبير" وأضاف عليها "حقوق الإنسان" و"المساواة بين بني الإنسان" و"حق تقرير المصير للشعوب"، وفي ذات الوقت وتحت هذا الغطاء الزائف التضليلي قامت أنظمة البطش والجريمة الرأسمالية المنظمة بارتكاب ابشع اشكال الإرهاب والاغتيال للإنسانية، فالولايات المتحدة قامت على أنقاض قتل ما يزيد عن (100) مليون إنسان هندي أحمر أميركي، وحدث ولا حرج عن فرنسا وجرائم حربها ضد الفرنسيين والشعوب التي وقعت تحت نيران استعمارها الاستيطاني كما حصل في الجزائر الشقيقة، وبريطانيا ارتكبت من جرائم الحرب ما لايعد أو يحصى، وألمانيا وإسبانيا والبرتغال وهولندا وكندا والبقية الباقية من دول الغرب المعادية للإنسانية وحقوق الإنسان، وحتى دولتهم اللقيطة إسرائيل أقاموها على انقاض نكبة الشعب العربي الفلسطيني، الذي مازالوا ينفون حقه في الحرية والاستقلال وتقرير المصير والعودة، رغم وجود ما يزيد على الف قرار اممي ذات صلة بالقضية الفلسطينية، ليس هذا فحسب، بل ينفون حقه في الدفاع عن نفسه، ويصفون نضاله الوطني المشروع، الذي كفلته المواثيق والأعراف والقوانين الدولية الأممية، بأنه "إرهابًا" و"شرًا"، وفي الاتجاه المعاكس، يعتبرون جرائم حرب إسرائيل المارقة "دفاعًا عن النفس" و"مبررة". لأنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، أي أنهم يقلبون القوانين والمواثيق رأسًا على عقب دون ان يرف لهم جفن، ويغطون حربها القذرة على غزة دون تردد.


الآن في حرب إسرائيل الفاشية على الشعب في فلسطين التاريخية عمومًا، وقطاع غزة تحديدًا منذ 12 يومًا خلت، لا يكتفون بوصف النضال الوطني ب"الإرهاب" وبغير ما فيه من مشروعية وطنية وإنسانية وفقا لقرارات الشرعية الدولية، بل يمنعون التضامن الإنساني معه، ويكيلون بمعاييرهم المزدوجة البغيضة؛ ويلاحقون الكتاب والفنانين التشكيليين وخاصة فناني الكاريكاتير والإعلاميين في المؤسسات الغربية، ويفرضون الاقامات الجبرية على المناضلات والمناضلين الفلسطينيين، وتصدر وزارات الداخلية في فرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا وغيرها من الدول قرارات جزرية بوليسية لتكميم افواه شعوبها وحملة جنسياتها من الدول الإسلامية والعربية بما في ذلك فلسطين. فضلاً عن حملة تشهير وتحريض غير مسبوقة على الشعب العربي الفلسطيني. وفي الوقت نفسه، تسمح لانصار إسرائيل والمنظمات اليهودية الصهيونية والمتساوقون معها بالتظاهر والاعتصام ورفع الشعارات التي تريد، وجمع التبرعات والمساعدات لدولة الأبرتهايد الإسرائيلية، وحتى تسمح لهم بملاحقة أنصار السلام من أبناء جلدتهم.


فضلاً عن الحجيج الممجوج والمفضوح لزعماء ووزراء تلك الدول وعلى رأسهم ساكن البيت الأبيض لاستجداء أباطرة رأس المال المالي، وأصوات الناخبين، ومنابر الاعلام الصهيونية لدولة إسرائيل لتقديم "الدعم لها" ومنحها الضوء الأخضر لاستباحة دماء الشعب العربي الفلسطيني في حرب الإبادة والمحرقة في قطاع غزة، الذي يفتقد للكهرباء والماء والمواد الغذائية والطبية والمستلزمات الصحية والطواقم الطبية، وإخراج العديد من مستشفياته عن العمل، وقصفها بالطائرات الحربية، وإلقاء ما يزيد عن ثمانية أطنان من القنابل التدميرية على السكان الأبرياء والعزل، في هدف واضح لإبادة الشعب، بالإضافة إلى فرض حرب التهجير على السكان الفلسطينيين، في عملية تطهير عرقي خطيرة تهدد باستحضار نكبة العام 1948.


هذا هو الغرب الرأسمالي، الذي يقوم على ركيزة أساسية عنوانها الجريمة المنظمة، وإرهاب الدولة على الشعوب المظلومة كما الشعب العربي الفلسطيني. آن الأوان لشعوب الولايات المتحدة وأوروبا الغربية والشرقية أن يكفوا عن قلب الحقائق، ويعملوا لبناء أنظمة أكثر أنسنة تتفق مع معايير الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير وتؤمن حقوق الانسان لشعوبها، وحملة جنسيتها، والدفاع عن حق الشعوب في تقرير مصيرها، وخاصة الشعب العربي الفلسطيني.