من الصوت ترسم الكلمات تباعًا، فالحروف حين ترويها رقائق الانتماء لوطن يعيش في داخل كل عاشق له؛ لا بد أن تفيض المشاعر بما يعتمل من عبرات الشّوق وملكة التعبير.

في قصائدها النثرية المعنونة بـ "غصن وبندقية" عزفت الشاعرة نهى عودة موسيقاها ضمن قول خالد للشهيد القائد ياسر عرفات "أبو عمار" حين ألقى كلمته في الأمم المتحدة: "جئتكم حاملًا بندقية الثائر بيد وغصن زيتون باليد الأخرى، فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي"، ومن خلال هذا التناص نعي خارطة الطريق للديوان.

ولعل استباق وضع "غصن" قبل كلمة "بندقية" جاء تماهيًا مع الحالة الشعورية بدور الحياة الكريمة أولاً، وهي الأساس، فإن كانت بالبندقية "الحالة الفلسطينية" كمحدد نضالي؛ فلا بأس، فلا معنى للغصن في دورة حياته إن لم يكن متوجًا واقعًا بالحرية والمكان المهيأ لهذا!

وإلا فإن المحصل الطبيعي لانتفاء الحرية والأرض هو البندقية، لذا فإن تجمع الكلمتين في عنوان واحد يدل على وجود الحالة السابقة وهذا ما استلزم ذلك.

 

*من نص (ما تيسَّر منك)

أعرْني

ما تيسَّر منك

فأنا طفلةٌ أراقبُ الأضواءَ

المنبعثَةَ من آخرِ الشارعِ

لكن أمي

تلعنُ المسافةَ حيثُ ركَضْتُ نحوَها

يا أيُّها القادمُ

من زمنٍ اعتكفْتَ به

كم من الأسئلةِ تحيطُ بك

أرضي تنتظرُ هطولكَ

وأنا لا حولَ لي

إلا عينين

تمنحانك جميعَ الأجوبةِ.

 

رغم ما يكون من فعل الأمر "أعرني" من توجيه يقتضي الاستجابة، إلا أن ما يجيء بعد، يحتمل أن فعل الأمر جاء بصيغة الطلب لا بصيغة الوجوب، فالجو النفسي يُبين كذلك، والدال عليه في قولها: "ما تيسر منك"، فالعادة في الأمر كلية التوجه لتثبيت تحقق الفعل كله لا نسبيته، وعلى هذا فإن الطبيعة التكوينية تتأرجح ما بين ذات الشاعرة المتكلمة، وذات الصياغة المتوقّدة لولادة الشعور الإنساني، والذي اختصرته الشاعرة في مفردة "طفلة"، ولنا أن نقول إن اختيار هذه المفردة أراح التتبع السردي من المراوغة إلى سكون حال البراءة في مفردة "طفلة".

وقد تم تعزيز هذه الفرضية بقولها:

" فأنا طفلةٌ أراقبُ الأضواءَ

المنبعثَةَ من آخرِ الشارعِ"

وهنا كان لا بد من الانتقال من حال "البراءة" إلى حال الوعي الذاتي، وقد وُفقت الشاعرة في اختيار ذات "الأم"، فشكّل ذلك اتزانا بين حال البراءة وحال الوعي، لذا اتخذ الحال انتقالا؛ اتكأ على فعل الوعي من خلال الانحراف الفعلي من حال المراقبة إلى حال اللعن!

وفي المقابل تعاود الشاعرة تأسيس الجو النفسي للأم في ملاذ "تلعن" إلى شكل يأخذ معنى (الفلاش بك)، فكان اللّعن مرده المراقبة لزمن المسافة في حال الركض! فارتد الشعور من اللّعن للمراقبة في سياق البوح " تلعنُ المسافةَ حيثُ ركَضْتُ نحوَها" فكان وعي الأم في سلوكها هو من صميم مراوغة الطفلة في المراقبة!

يبدو أن قيمة الوعي التي أنتجها حال الأم قد جعل الصياغة تسير لمنحى تصاعدي في الجو النفسي، فانتقل من الأمر إلى صيغة النداء بقصد الإشعار والإشهار، إشعار لافت بالقول، وإشهار لموقف بالتصريح، وعودة لـ (الفلاش بك) بوضوح لا مراوغة في قولها:

" يا أيُّها القادمُ

من زمنٍ اعتكفْتَ به"

هنا عمدت الشاعرة إلى إغلاق دائرة اللوحة الأولى، وتشكيل لوحة جديدة، ليس بقصد إغفال السابقة بل بجعل السابق حجر أساس لما سيأتي، لكنها في نفس الوقت عملت على اختيار ألوان مختلفة في الإغلاق والافتتاح، بين الرجاء واللّوم، وما بين الرمادي والأسود، وهذا ما نراه في قولها:

" من زمنٍ اعتكفْتَ به"

" أرضي تنتظرُ هطولكَ

وأنا لا حولَ لي

إلا عينين

تمنحانك جميعَ الأجوبةِ"

السياق العام في المقطع يأتي ضمن محاولة درامية بلغة بسيطة لكنها تشعل أفق التفكر في الصراع النفسي الدائر بين البراءة والوعي والاقتدار في آخر المطاف من خلال سردية مخاطبة "للكاف" في (منك ــ بك ــ هطولك ــ تمنحانك) مقابل استخدام ضمير "أنا"، وكأن استخدامه؛ المرتكز النفسي، وما كان غيره فهو إرهاصاته.

*من نص (نداءُ استغاثة)

كيف لي

أن أرتلَ اسمًا

يزيدُ ولا ينقصُ

إن كثرَت المتاهاتُ بينَنا

وهل أستطيعُ صبرًا على هجرٍ بعدَما

زيَنْتَ

الروحَ بحجِّ العشقِ

فكبّرتُ على اسمِك ثلاثًا

حتى أكونَ آخرَ المرسلين إليك

وكيف لي أن أغزلَ من حرفي قصيدةً

إن لم تكنْ

يدُك

تداعبُ يدي يا كلَّ كلي

دنوْتُ

منك حتى صرْتَ كلي

فلا تتركْني

أتوهُ بزمنٍ

أنت فيه كلُّ جيشي وفرساني.

 

حوار داخلي متخم بالتساؤلات وتعابير مدجنة في قلب يمرق بين الحروف، فتنساب التساؤلات برفق رغم وقعها في حوار محكي يتناوله عبر تساؤلات في ظاهرها، لكنها أجوبة تثبت حالة العشق الماثلة في النص.

ولعل ما يعزز اختيار التساؤل بقصد الجواب هو استخدام حرف "إن" للتأكيد في قولها:

" إن كثرَت المتاهاتُ بينَنا"

" إن لم تكنْ

يدُك"

يلاحظ في هذا المقطع تناص مختلف الدرجات من التراث، ويظهر ذلك في قول الشاعرة:

" أن أرتلَ اسمًا"

" فكبّرتُ على اسمِك ثلاثًا

حتى أكونَ آخرَ المرسلين إليك"

واقترابا من لمحات صوفية في قولها:

" زيَنْتَ

الروحَ بحجِّ العشقِ"

" تداعبُ يدي يا كلَّ كلي

دنوْتُ

منك حتى صرْتَ كلي"

من خلال هذين المنعطفين، نحس أن هناك بعدا فكريا يرتكز على الثقافة التحصيلية للشاعرة من خلال الاطلاع على محسنات تراثية باتت واضحة من الأمثلة السابقة.

وتبرز ملكة التأمل من خلال المقتطف التي تذهب إلى تأمل عميق في الذات، ليس بقشرتها الخارجية الظاهرة بل في جوهرها الذي يتخذ من العشق ملاذا يفتح أفقا واسعا لتأمل تكويني، غير مغادر نطاق المعشوق، فإن اختزال الحالة عمل على حصر التأمل في بوتقة لا تخرج من البشرية رغم اتخاذ منمنمات تصويرية تراثية، وهذا واضح في قولها:

"...يا كلَّ كلي

دنوْتُ

منك حتى صرْتَ كلي"

متماهيا في الفكرة مع قول الحلّاج:

" أَدَنَيتَني مِنكَ حَتّى

ظَنَنتُ أَنَّكَ أَني"

"يا كُلَّ كُلّي فَكُن لي

إِن لَم تَكُن لي فَمَن لي

يا كُلَّ كُلّي وَأَهلي

عِندَ اِنقِطاعي وَذُلّي"

مع اختلاف أن عشق الحلّاج كان سماوي المخاطبة.

الملاحظ أن هذا المقتطف أوجد جوّا داخليًا أشبه بالاحتراق الذاتي حتى كان لزامًا على الشاعرة أن تخلق تعبيرًا يمثل فرجة للتخفيف من حالة الصراع إلى حالة الاستسلام والذي أراه أنيقًا رغم نهايته الماثلة في قولها:

" فلا تتركْني

أتوهُ بزمنٍ

أنت فيه كلُّ جيشي وفرساني"

وكأن هذا الختام يمثل سحقًا لحالة التساؤلات في حال الأجوبة، وإثارة لحال التغلب على حالة التماس الجسدي نحو نسق تعبيري تركيبي، ينتج دفقة أخيرة باعتراف لخّص كل التساؤلات في إجابة مانعة.

 

*من نص (امرأة لا تقرأ)

يسبغُ الليلُ حلّةً جديدةً

يراوغُ قوتي على انبلاجِ صبحِهِ

إن كانَ قمرُهُ

يختبئُ خلفَ غيمتِهِ السوداءِ

 

في بداية نص "امرأةٌ لا تقرأ" تسير ممهدات تصويرية، تثير أفعال استمرار في الشق الأول منه، ولا يعني ذلك أن النص بدأ فعلا في مستهله! ففي تكوينه أراه في جوَه التصاعدي قد كان قبل بدء النص، لكن الحالة المتفاعلة أخرجت التفاعل الظاهر في قولها:

"يسبغُ الليلُ حلّةً جديدةً"

وهذا مرد تنشيط التأمل بأن مفردة "يسبغُ" لا تكون حالة فجائية بل هي نتاج حالات سابقة متعاضدة مع الحالة المكتملة "يسبغُ"، والإسباغ في المعنى هو الإتمام، فحال الإسباغ ليس جديدا، وهذا ما نفهمه من وصف "حلّةً جديدةً".

نلاحظ في اختيار الأفعال (يسبغ ــ يراوغ ــ يختبئ) أن هناك انتقالا بين الاقتدار التجسيدي للمعنى في "يسبغ" وحالة انكفاء غير تامة، بمعنى أن من يستخدم "يسبغ" فهو متمكن في تكامل الفعل واقتداره، وأما "يراوغ" فهو معنى يمثل تقهقرا ولو جزئيا في حالة الفعل، فالمراوغة تعني عدم السيطرة الكاملة والبحث عن موطن هامش من المكر والخديعة، وتعنى أيضا التمكن في إدارة الأمر بشكل يضمن النجاعة المطلوبة دون استخدام المواجهة المباشرة، وهذا في كينونته قوة وحكمة.

هناك ثراء جمالي في هذا المقطع، مما يعطي انطباعا بقدرة تكوينية للوحة تشبيهية في تداخل المتناقضات ما بين "الليل" "صبحه" "قمره" "يختبئ ..."، ورغم ذلك؛ نرى توازنا في بنية المقطع، وهدأة في التأمل للوحة.

 

أنا انعكاسُ مرآةٍ وضعوها على جنبٍ

فمن لي إن هبَّتْ رياحي

ولم أستطعْ أن أتعرّفَ مرَّةً أخرى

على وجهي

 

أرادت الشاعرة تشكيل بصمة في نهاية النص، حيث عمدت إلى التمدّد الذاتي باستخدام ضمير "أنا" تارة، وإخفائه تارة أخرى في توظيف للتخفيف من وقعه دون إتخام.

لكنها وفي الوقت نفسه؛ أوصلت الفكرة كما هي من خلال القفلة الأخيرة للنص، فكأنها استعاضت عن الضمير "أنا" بالإشارة إلى الذات الكلية باختزاله في مفردة "وجهي"، فكان الاختزال إعلامَا بكلية الوصف والمعنى.

ولعل الشاعرة قد وُفقت باستخدام مفردة "رياحي" بدلاً من مفردة "ريح" لما لها من استلهام للذات، في كينونة فيها من الرفق رغم الفعل الذي لا نعرف انعكاسه على نفسية الشاعرة بقولها:

"أنا انعكاسُ مرآةٍ وضعوها على جنبٍ"

هناك صراع داخلي أوجده اختيار مفردة "رياحي"، وكأن هناك بعض المواربة في المباشرة لحالة تستدعي السؤال: لماذا ارتأت الشاعرة أن تكون انعكاس مرآة في صورة لا تململ فيها، ثم تعاند برفق هذا التململ؟ كأن هناك انكسارًا داخليًا، لمسناه في تعبيرها "وضعوها على جنبٍ" وعدم القدرة التعامل مع ردة الفعل "فمن لي إن هبَّتْ رياحي"، ثم جاء التبرير بشكل جمعي للمقطع، يمثل استبدالا للمشاهدة ما بين دلالة استخدام الضمير "أنا" وبين الاختزال "وجهي" الدال عليه.

 

طلعت قديح