قراءات الكتاب والمبدعين للظواهر والأشخاص والواقع تختلف من شخص لآخر، وغالبًا تتنافر وتتناقض المعايير بحساب الخلفيات، والاسقاطات الرغبوية عند هذا الإنسان أو ذاك. فالكاتب إنسان باحاسيس ومشاعر، يحب ويكره وأحيانًا محايد لاعتبارات خاصة، ولغاية في نفس يعقوب، وأحيانًا تكون القرارات موضوعية ومتعالية على الخلفيات. وبالتالي محاكاة ومحاكمة هذه الظاهرة، أو ذلك الإنسان تعكس أحد الأبعاد المذكورة آنفًا. 

ترددت كثيرًا قبل أن أطرق باب النقاش مع الصديق غسان، لأني دومًا أخشى إساءة فهم مقاصدي ورسالتي في هذه المقالة أو أي مقالة لها صلة بالحديث عن شخص سيادة الرئيس محمود عباس، وكوني أرفض من حيث المبدأ أن توضع مقالاتي في دائرة تمسيح الجوخ، أو المداهنة والتزلف لشخص الأخ أبو مازن. لا سيما وأنه صانع القرار الأول في فلسطين، ومالك الشرعيات الثلاث: رئاسة الشعب، ورئاسة منظمة التحرير ورئاسة حركة "فتح"، كبرى الفصائل الوطنية، وصاحبة الطلقة الأولى. مع ذلك وكوني كتبت في أعقاب إلقاء سيادة الرئيس عباس خطابه في الأمم المتحدة في الخامس عشر من أيار / مايو الحالي في الذكرى ال75 للنكبة، والتي هي المرة الأولى التي تحييها هيئة الأمم المتحدة، واعتبرت شخصيا الخطاب "المرافعة الأهم" للرئيس الفلسطيني، رغم أنه خاطب الأمم المتحدة عشرات المرات، ومع أنه لم يحمل جديدًا نوعيًا في السردية الوطنية. ولكن بالضبط لأن الخطاب مقترن بإحياء ذكرى النكبة، وكونه يخاطب ممثلي الدول الأعضاء في الهيئة الدولية، ونتاج محاولات إسرائيل المارقة وحليفتها الاستراتيجية الولايات المتحدة إفشال ومنع المناسبة، احتل الخطاب من الأهمية السياسية والقانونية مكانة المرافعة الأبرز والأهم. 

دون استطراد رأيت من الواجب إنصاف مكانة سيادة الرئيس محمود عباس. لأن مقالة الصديق غسان زقطان بعنوان "أليس في بلاد العجائب" المنشور في "النهار العربي" يوم الثلاثاء الموافق 23 أيار / مايو 2023 غبنته حقه، وجانبت الحقيقة والصواب في الكثير من النقاط المتعلقة بالكاريزما من عدمها في شخص الأخ أبو مازن، التي أوردها الشاعر والروائي والإعلامي زقطان في مقالته آنفة الذكر. وأجزم أن صديقي أبو مكسيم لم يحالفه الحظ في اختيار العنوان، ولا في محاججته، ولا في مقارباته. 

وأود أن أذكر غسان وكل من توافق معه بعدد من مناقب وخصال عباس الهامة، التي تتنافى مع ما حملته مقالته: أولاً محمود عباس وقبل أن يحتل موقع الرئاسة كان صاحب رأي ووجهة نظر دافع عنها بقوة ودون تردد. بتعبير آخر، لم يكن رقمًا من أرقام المركزية، ولم يداهن زعيم الحركة ولا أي قطب من أقطابها، الذين تقدموا عليه في المكانة والاولوية القيادية؛ ثانيًا كان الصوت المرجح عشية اطلاق الرصاصة الأولى لدعم خيار الكفاح المسلح، تلك الرصاصة التي منحت حركة "فتح" المكانة المركزية في الساحة، وأفترض أن يكون العزيز غسان يعلم، أن حركة القوميين العرب نفذت عملية فدائية استشهد فيها كل من محمد اليماني وأحمد أبو عيشة في تشرين اول / أكتوبر 1964، أي قبل إطلاق "فتح" رصاصتها الأولى، ولكنها لم تعلن عن تبنيها انسجامًا مع شعار الحركة آنذاك القائل "فوق الصفر .. تحت التوريط"، الذي أفقدهم الريادية في قيادة حركة التحرر الوطني الفلسطينية؛ ثالثًا عندما تبنى خيار المساومة الوطنية وإنجاز التسوية السياسية على أرضية إقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران / يونيو 1967، وحتى القبول في البداية بالحكم الإداري الذاتي دافع عن ذلك بقناعة امام المجلس المركزي، وأكد لي أحد الشخصيات القيادية اليسارية، أن أبو مازن قال بالفم الملآن وجهة نظره، ولم يخف شيئًا؛ رابعًا هو من اقنع القائد الرمز ياسر عرفات بالانخراط في التسوية وبالذهاب لأوسلو، وكانا على توافق تام بشأن الملف، وكان معهم فريق وطني غير الفتحاويين ومنهم الأصدقاء ياسر عبدربه وحسن عصفور وآخرين كثر؛ رابعًا عندما تسلم رئاسة الحكومة عام 2003، ولم يلتزم الأخ أبو عمار معه بما تم الاتفاق عليه، وهوجم من قبل كوادر فتح بايعاز من الأخ أبو عمار، غادر رئاسة الحكومة دون تردد؛ خامسًا في كامب ديفيد 2 عام 2000 هو من وقف إلى جانب الرئيس أبو عمار ضد الخطة الأميركية، وقطع سفره وعاد لكامب ديفيد ليساند الأخ الراحل الرمز ياسر عرفات؛ سادسًا عندما ترشح للانتخابات الرئاسية عام 2005 قادة الانتخابات على أساس برنامج سياسي واضح عنوانه القبول بالتسوية، وباعتبار المفاوضات ركيزة أساسية لخياره السياسي، وفاز على هذا الأساس؛ سابعًا كل إنسان له طريقته في الخطابة، والحركات والإيماءات التي تتوافق مع سماته الخاصة، وسيادة الرئيس أبو مازن تمتع بالخطابة الهادئة أن جاز لي التعبير، بعكس الرئيس الراحل أبو عمار، الذي لم يحسن الخطابه باستثناء الخطابين 1974 في الأمم المتحدة، وخطاب إعلان الاستقلال 1988، اللذان كتبا له من قبل اخوة نعرفهم جيدًا؛ ثامنًا أما عن الخطاب الأخير فلا أريد تكرار نفسي، لم يكن مطلوبًا منه اللجوء للخطاب الانفعالي والشعبوي، بل خطابًا اقرب للمحاضرة لايصال الرسالة. وأتفق أن الخروج عن النص انعكس سلبًا على طابع الخطاب الهام. لكن لم يحد عن نصه، لم يتعلثم، ولم يتوه عن متابعة رسالته الوطنية بامتياز، أضف إلى أن الترجمة لكلمات رؤساء الوفود تتم على أساس النص المكتوب أمام المترجمين؛ تاسعًا استخدم سيادة الرئيس عباس أسلوب قوة فلسطين في ضعفها، وطالب بتطبيق القرارات الأممية ذات الصلة بالحماية الدولية، ولم تكن من موقع الضعف، ولكن من موقع قراءة موازين القوى، والحاجة للحماية الدولية؛ عاشرًا لو كان شخص سيادة الرئيس كما ذكرت ضعيفًا ولا يملك الكاريزما، لما تمكن من تثبيت حضوره القوي في مركز صناعة القرار؛ حادي عشر لأنه يملك الكاريزما الخاصة به تصدى لصفقة القرن بجدارة وثبات أمام غطرسة وعنجهية ترامب الرئيس السابق. ولأنه كذلك عندما عقدت القمة في دمشق عام 2008، اعترض الاميركيون على المشاركة الفلسطينية. لكنه شارك وبقي كما قال حتى اطفئت الانوار الأخيرة في أروقة القمة آنذاك .. وهناك الكثير من المواقف الشجاعة والمتميزة لسيادة الرئيس وكاريزمته الخاصة به. 

وبالنهاية كل شخصية لها ملامحها الخاصة، ولكل حصان كبوة، والرئيس أسوة بياسر عرفات وجمال عبد الناصر أبو الكاريزما القومية له أخطاءه وإيجابياته، وبالتالي ما ورد في مقالتك كان بمثابة اسقاط رغبوي، وخانك التعبير، أو لنقل عكست موقفًا شخصيًا غير موفق حسب وجهة نظري.