تقرير: فاطمة إبراهيم

في منتصف نيسان عام 48، ودع فخري تركمان أصدقاءه أمام ساحة مدرسته في قرية المنسي قضاء حيفا، قبل أن يترك منزله رفقة عائلته إثر اجتياح العصابات الصهيونية للقرى الفلسطينية.

خرج فخري الذي كان يبلغ من العمر 10 سنوات برفقة والديه وإخوته الـ7 وعائلاتهم، ومعهم عدد كبير من أهالي القرية، مشيا على الأقدام، حتى وصلوا إلى قرية سالم، ومنها أكملوا طريقهم عبر الجبال والأودية حتى قرية كفر دان بمحافظة جنين.

وتقع قرية المنسي إلى الغرب من مرج ابن عامر، وتبعد عن حيفا 30 كيلو متراً، و20 كيلو متراً عن مدينة جنين.

يتذكر فخري تركمان، جيداً، طفولته في وطنه الصغير قرية المنسي، ينظر إلى الخريطة المعلقة على جدار منزله في مدينة جنين، ويسرد تفاصيل أيامه هناك.

"كنت أعيش مع عائلتي في منزل من الحجر، كنا عائلة مكونة من 10 من الإخوة والأخوات، أذكر مدرستنا بشكل جيد، كانت مدرسة جميلة بحديقة واسعة، وفيها ماتور للماء، وفقاسة للدجاج، درست حتى النصف الأول من الصف الرابع الأساسي في المدرسة، ثم هُجرنا"، قال تركمان.

وأضاف، "المنسي قرية جميلة جداً، بيوتها حجرية بيضاء لامعة، تخالها كحبات اللؤلؤ المنثور، وفيها 4 عائلات، هي: بنو سعيد، وبنو علقة، وبنو ضبية، وبنو غرة".

وتقدر مساحة أراضي المنسي بنحو 50 ألف دونم، تمتد في سهل مرج ابن عامر، وتُشتهر بكثرة عيون الماء فيها وبخصوبة أراضيها، وكان سكانها البالغ عددهم وقت التهجير قرابة الـ1200 نسمة يعملون في الزراعة وتربية المواشي، كما عمل عدد قليل منهم في التجارة.

بدأ الهجوم على قرية المنسي والقرى المحيطة بها في أوائل شهر حزيران بعد معارك بين العصابات الصهيونية والأهالي الذين حاولوا الدفاع عن أراضيهم ومنع تقدم عصابات "الهاجانا" إليها والسيطرة عليها.

 

يقول تركمان، "بدأ خروجنا في شهر نيسان بعد وصول جيش الإنقاذ العربي إلى المنسي والقرى المحيطة، وبدأ جيش الإنقاذ بالاشتباك مع العصابات الصهيونية الموجودة في مستعمرة (مشمار هعيمك) الواقعة بين قريتي الغبيات وأبو شوشة، وبعد أيام من الاشتباك، طلب جيش الإنقاذ وقف إطلاق النار، لكن عصابات الهاجانا رفضت وشنت هجوما على القرى المجاورة للقرية".

يروي تركمان، بألم وحسرة، تفاصيل هجوم "الهاجانا" على قريته والقرى المجاورة، ويقول، إن هذه العصابة الصهيونية وصلت إلى المنسي وبدأت بتدمير المنازل فيها، فاضطُر الأهالي إلى الخروج لحماية أنفسهم، ومحاولة العودة بعد هدوء المعارك، وذلك ما لم يحدث أبدا.

يضيف، "انسحب جيش الإنقاذ وتركنا منازلنا في القرية وصعدنا على الجبال، وبعد أيام قليلة، كانت "الهاجانا" قد دمرت غالبية البيوت في القرية وبدأت بتطويقها وفرض سيطرتها عليها، وكلما اقترب الخطر علينا، كنا نستمر في الابتعاد شيئاً فشيئاً عن المنسي، فيما بقي عدد من الأهالي يحصدون سهل القرية المزروع بالقمح والشعير والعدس".

وفي شهر حزيران من عام 48، تمكن فخري تركمان وشقيقه من العودة إلى منزلهما في قرية المنسي، متسلللين عبر الجبال والأودية، وصلا إلى منزلهما وتمكنا من رؤية الدمار الذي حل بالقرية، ومنازلها. "شاهدت البيوت قد سُوّيت بالأرض، ومخابئ المونة التي كنا نحفظ فيها العدس والقمح والشعير مهدمة، وبالقرب من المدرسة كانت بقايا الدفاتر والأوراق منثورة على طول الشارع، حتى اليوم لا يغيب ذلك المشهد عن مخيلتي أبداً". ويضيف، "استطعت أن أحمل بعض الأغراض أنا وشقيقي من منزلنا وعدنا مسرعين إلى أهلي الذين كانوا متواجدين في سالم، حملت بعض أواني المطبخ وبعض الثياب والأغطية".

بعد المكوث في قرية سالم القريبة، أكمل أهالي المنسي المهجرون رحلتهم مشياً على الأقدام، البعض وصل إلى قرية كفر دان على أطراف مدينة جنين، والبعض الآخر انتقل إلى الجانب الآخر حتى نابلس وطولكرم وغيرهما.

وفي كفر دان، أصبح فخري وعائلته وبقية أهالي المنسي لاجئين بعد حصولهم على بطاقة من مفوضية الأمم المتحدة للاجئين تحمل صفة لاجئ، وهناك استمر عيشهم لمدة 3 سنوات أكمل فيها فخري تعليمه في الصف الرابع الأساسي، قبل أن ينتقل إلى مدرسة الأونروا في جنين، وتحديداً في مخيم جنين الذي أقيم لسكان المنسي وغيرهم من اللاجئين الفلسطينيين من القرى المهجرة عام 48.

يبلغ تركمان اليوم 85 عاماً، ويعيش مع عائلته في مدينة جنين بعد أن أمضى أكثر من نصف حياته في المخيم، ويقول إنه عاد مع والده وعمه إلى قرية المنسي، لكن مشاهد الدمار التي كانت عليها القرية أصابت عمه بانهيار عصبي، فيما بكى والده على أطلال منزله المهدم.

"لا يمكن لي وصف كمية الألم الذي أحسست به حين رأيت بقايا منزلنا، لا يمكن لي أن أنسى وجه والدي وعينيه اللتين فاضتا بالدموع.. عمي تطلب نقله إلى المستشفى لإصابته بانهيار عصبي ونفسي" يقول تركمان، الذي أشار إلى أنه ربى أولاده على حب قريتهم المنسي، وعلى أن العودة حق راسخ، وأنهم سيعودون يوما ما، هم أو أبناؤهم، حتى ولو بعد 100 عام.

المصدر: وكالة انباء وفا