أكادُ لا أصدقُ هذا العجب العجاب، وهذه الوحشية والعنصرية، وقلّة الحياء والأخلاق، وغياب الضمير، وانتفاء البعد الإنساني، وأنا أرى ما حل ويحل بقرية العراقيب الفلسطينية الواقعة شمال مدينة بئر السبع في النقب، جنوب بلادنا الفلسطينية العزيزة، منذ عام 2013 وحتى هذه الساعة.
العراقيب قرية فلسطينية، يعيش فيها حوالي 1400 نسمة  من السكان، ومساحتها حوالي 200 ألف متر، وفيها آلاف الرؤوس من الماشية، وثلاث آبار، ومئات من بيوت  الصفيح والخشب (كرافانات)، والخيام، لأن الإسرائيلي هدم بيوت القرية الحجرية وطرد السكان عشرات المرات قبل عام 2010، لعلة واهية فهو لا يعترف، وهو المحتل، ويا للسخرية! بشرعية 45 قرية فلسطينية مجاورة لقرية العراقيب، ويريد تهجير سكانها جميعاً كي يستولي على أراضيها وتحويلها إلى معسكرات لتدريب دباباته ،وطائراته المسيّرة، وجنوده على المهارة والبراعة في قتل الفلسطينيين وإشاعة الخوف بينهم، ولكن أهالي قرية العراقيب تمسكوا بأرضهم، وباتوا لياليهم الطوال، وخلال عشرات السنين الفائتة، في العراء، وفوق أنقاض بيوتهم التنكية والخشبية والكتانية، ولم يغادروها، وأعادوا بناء قريتهم ( 116) مرّة، بعد أن هدمها الإسرائيلي وبكلّ الجلافة (116) مرّة، والقرية، منذ سنوات الاحتلال الأولى، بلا كهرباء، وبلا طرق، وبلا ماء، وبلا خدمات!
هذا الأمر العجيب العجب، لم تتحدث عنه، من قبل، كتب التاريخ، ولا سير الشعوب، ولا الانثروبولوجيا، ولا علم النفس، ولا مدونات الحروب، ولا حكايات الغجر؛ والأكثر عجباً أنّ الأخبار، والأحاديث، والمداولات، والشؤون الإنسانية الآتية من بلاد الغرب كلّها لا تتحدث عما يحدث في قرية العراقيب الفلسطينية، لكأن كلّ شيء هناك أُصيب بالصمم والعماء والخرس حين يتعلّق الأمر بالكيانية الإسرائيلية ! والمهزلة  هي أن أخبار الغرب المتفاخرة تتحدث عن رصدها لكلّ ما يحدث في بواطن الأرض، وفي فضاءات السماء، وفي القطبين، ولكنها لا تتحدث عن خبر واحد يطلع من قرية العراقيب التي هدمها الإسرائيلي، بكلّ البربرية ( 116 )مرّة، لا بل أراد الإسرائيلي المتوحش أن يجعلها وخلال( 116) مرّة قبراً واحداً لأهلها وبيوتها، وماشيتها، ومدرستها الصغيرة، ومشفاها المتواضع، ودار عبادتها الوحيدة، وتاريخها، وعادات ناسها وتقاليدهم، وأحلامهم أيضاً، لكنه أخفق، ومُني بالخذلان، لأن أهالي قرية العراقيب، وخلال ساعات يعيدون بناء البيوت، عفواً يعيدون بناء الحياة، حتى إذا طلع الصّباح عليهم، واجهوا قريتهم بقولتهم العسل : صباح الخير.. يا بلادي!
هذه القرية العراقيب الفلسطينية، هي توأمة ربانية مع قرية بيكاسو( 1881-1973) الغرنيكا، التي خلّدها بلوحته الشهيرة التي حملت اسمها، يوم قصفتها طائرات هتلر وموسوليني الحاقدة عام 1937، نصرة ً للجنرال الدموي فرانكو، فأبادت النساء والشيوخ والأطفال، ودمرت البيوت والمشافي والمدارس والجسور والطرق 
وشلّت الحياة، لذلك خلّدها بيكاسو بلوحته  الرائعة( الغرنيكا)،  وجعل رموزها في ضفتين اثنتين واحدة للموت، وثانية للحياة، وواحدة للثور الذي يمثل القوة العمياء، وثانية للحصان الجريح المألوم، وواحدة للنساء الثكالى، وثانية للعسكر المخذولين مكسوري الحراب، وواحدة للنار والظلمة والدمار، وثانية للغيوم  والطيور.
بلى، يا عم بيكاسو، يا صاحب الـ (50) ألف لوحة، حال الغرنيكا وصورتها أمس، بادية اليوم في قرية العراقيب الفلسطينية وللمرّة (116) من دون خجل أو حياء أو بُعد أخلاقي أو جملة في أخبار الغرب الذي يتباهى بالديموقراطية وحقوق الإنسان والحيوان معاً، والضفتان، يا عم بيكاسو، هناك في الغرنيكا، هما هنا في العراقيب، بكلّ الرموز والمعاني!
والفارقُ المضافُ هنا، هو أن الألم صار أعمدةً مرفوعةً منذ عام 1948، ولا أحد يراه، وصراخُ بيوت  العراقيب ومدارسها وطرقها وحقولها وكتبها وأحلام أهلها.. صار فضاءً فلسطينياً وسيعاً، ولا أحد يرى أو يسمع أو يتكلّم، يا للمعضلة!
العراقيب والغرنيكا، يا عم بيكاسو، توأمةٌ ربانيةٌ مرفوعةٌ على أكفّ المظلومين، هنا وهناك، تصرخُ في وجه صنّاع التوحش والبربرية وبالصوت الأعمّ الأتمّ:  لا لهذا الظلموت!
أمّا رسم لوحة العراقيب، فهو آتٍ لا ريب، وستكون رموزها متجاورةً في عناق حميم  للقمح والزيتون والبرتقال والخروب والصّباحات  والدروب والظلال والكتب والدودحان والأحلام.. وأعشاش الحمام.