الحرب هي السياسة بوسائل قتالية، وهي فن من فنون الصراع، ولا يدخل الحرب إلا من يكون على مستوى الدراية بالعلم والكفاءة والحكمة العسكرية، ويدرك أهدافها وسيناريوهاتها السلبية قبل الإيجابية، ورغم أن الحرب مطلق حرب تعتبر مغامرة، ولكنها مغامرة محسوبة، وليست مزحة، أو نزوة، أو ناجمة عن ردود فعل ارتجالية، ولا هي مراهقة صبيانية، لأنها محكومة بقوانين وقراءات دقيقة للموقف في تحولاته الناجمة عن سير المعارك، والشروط العملياتية، والاستحضار الدائم لجاهزية وقدرات العامل الذاتي العسكرية والمالية الاقتصادية والصحية والتربوية والإعلامية الثقافية والبيئية، وأيضًا الوقوف على تطورات العامل الموضوعي، إن كان على صعيد الطرف الآخر، أو على صعيد حلفاء وشركاء الطرف ذاته، ومدى استعدادهم لتقديم الدعم المادي والمعنوي. 


ما تقدم له عميق الصلة بالمحاولة الأوكرانية الصبيانية يوم الثلاثاء الماضي الموافق 3/5 الحالي باغتيال الرئيس فلاديمير بوتين، والتي تم التصدي لها من خلال تدمير الطائرتين المسيرتين، التي اطلقها نظام الرئيس زيلينسكي، معتقدًا أنه باغتيال الرئيس الروسي يستطيع أن ينهي الحرب، ومفترضًا أن القيادة السياسية والعسكرية والأمنية الروسية ساذجة حتى تترك مركز القرار الروسي بلا حماية، والأخطر أنه لا يدرك تداعيات العملية الغبية التي أفشلها الروس في اللحظة الأخيرة، ومراهنًا على الغرب الرأسمالي بقيادة أميركا بحمايته من رد الدب الروسي، ويتضح أنه لم يتعلم حتى الآن من الحرب الدائرة، ولم يستخلص دروسها المختلفة، وأولها أنه لا يساوي شيئًا بالنسبة للأميركيين، لأنهم يقاتلون حتى آخر مواطن أوكراني بما في ذلك شخص الرئيس زيلينسكي وأركان جيشه وحكومته. 


ومن القراءة السريعة لمحاولة اغتيال حاكم الكرملين القوي، يمكن الاستنتاج التالي: أولاً أكد الرئيس الاوكراني وقيادته العسكرية والأمنية، ومن يقف وراء دفعه لتنفيذ العملية الصبيانية، إنهم جميعًا مراهقين، ولا يملكوا حدًا أدنى من الحكمة السياسية أو العسكرية؛ ثانيًا أدخل الحرب في مرحلة نوعية جديدة، وهو يعلم أن موازين القوى كانت ومازالت لصالح الجيش والقيادة العسكرية الروسية؛ ثالثًا أطلق يد القيادة الروسية في اتخاذ ما يستوجبه الرد المناسب بما في ذلك الاغتيال للرئيس وأركان قيادة النظام السياسي الاوكراني، وهذا ما عبر عنه نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، دميتري ميدفيديف في نفس يوم العملية  بالقول "لم يبق سوى خيار التحييد الجسدي لزيلينسكي وعصابته." بتعبير أوضح، كأن لسان حال الرئيس الروسي السابق، أن القيادة الأوكرانية أطلقت النار على رأسها، أي انتحرت، وليس على أرجلها فقط؛ رابعًا أي كان حجم الدعم والمساندة الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية لن تغير من موازين القوى لصالح أوكرانيا. 

 
ومع ذلك، تشير العملية الأوكرانية بوصول طائراتها المسيرة إلى العاصمة موسكو ومبنى الكرملين حيث إقامة الرئيس بوتين إلى فشل المنظومة الأمنية الروسية، ووجود خلل فاضح في تقدير الموقف الروسي لأعدائه، وانكشاف المجال الجوي الروسي أمام الطائرات الأوكرانية إن كانت مسيرة أو غير ذلك، وعدم التمييز بين الطائرات المسيرة الروسية أو المعادية. لا سيما وأن هناك فرضية ترى، أن العملية تمت من داخل الأراضي الروسية، ولم تأتِ الطائرات من كييف ولا من لوغانسك أو يخموت، وهذا يؤكد مجددًا وجود ثغرة كبيرة في حماية البيت الروسي، خاصة وأنها ليست العملية المعادية الأولى، بل سبقتها عمليات أخرى في أكثر من مدينة روسية. الأمر الذي يفرض على القيادة الروسية إلى الآتي: أولاً عدم التراخي، والنوم على موازين القوى المائلة لصالحها؛ ثانيًا إعادة نظر شاملة في تقدير الموقف في كل الجبهات في الداخل الروسي وفي الأقاليم التي تم ضمها لروسيا مؤخرًا لوغانسك ودونيتسك أو في جبهات القتال، واستخلاص الدروس والعبر فورًا، وأهمها حماية مجالها الجوي؛ ثالثًا البحث عن وملاحقة العملاء الذين أطلقوا الطائرات من الأراضي الروسية، وكشف أوكارهم قبل فوات الأوان؛ رابعًا اتخاذ إجراءات عقابية ضد القائمين على حامية موسكو كلها برًا وجوًا، لأنهم أكدوا عدم جاهزيتهم في مواجهة العدو الداخلي والخارجي .. وغيرها من الإجراءات ذات الصلة بالأمن.


وأي كانت أخطاء وخطايا القيادات العسكرية والأمنية الروسية، فإن القيادة الأوكرانية ارتكبت غلطة عمرها في الذهاب إلى متاهات جديدة لحرب قاسية وطويلة ونهايتها معلومة.