تقرير - يامن نوباني وليالي عيد

في نهايات الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، كان الفدائيون يتسللون إلى الأرض المحتلة عبر نهر الأردن والحدود في الأغوار الشمالية سيراً على الأقدام بطريقة عكسية، حتى يظنهم جيش الاحتلال ذاهبون إلى خارج البلاد، لا عائدون إلى تراب الوطن.

إنه "التمويه" والإبداع "الثوري"، لإرباك الاحتلال وإنهاكه في ملاحقة المناضلين، إنه "التخفي" قدر الإمكان، وتشتيت العدو، وضرب ضخامة ترسانته العسكرية والأمنية والتكنولوجية.

قبل أربعة أيام في مخيم شعفاط شمال شرق القدس المحتلة، بدأ عدد من الشبان بحلاقة رؤوسهم على درجة الصفر، في حالة ثورية تجلت فيها الحاضنة الشعبية للمطاردين، حالة وعي وعمق وفكر لجيل خلق أول عصيان مدني تشهده فلسطين منذ عصيان "بيت ساحور عامي 1988-1989"، ناقشا أثراً لن يغيب في الحالة الوطنية الفلسطينية، كما أعاد هذا الابتكار الثوري التاريخ 84 عاماً إلى الوراء، حين أصدرت القيادة العامة للثورة أمراً يقضي بلبس الكوفية والعقال وخلع الطربوش لحماية الثوار الذين ينفذون العمليات ضد الجنود الإنجليز.

تكاتف الجميع في مخيم شعفاط، في حملة قص الشعر على الصفر، فقامت عدة صالونات حلاقة بتقديم الخدمة "مجاناً" للراغبين، كما انضمت مجموعات شبابية للحملة، وقصت شعرها بالجملة في مشهد تحدٍ لجبروت المحتل.

كما انخرط محيط مخيم شعفاط، في بلدات وقرى القدس، في الحالة، وقاموا بحلاقة رؤوسهم، حتى أن الدعم المعنوي والمساندة وصل مخيم عايدة في بيت لحم، وخرج عدة شبان من صالونات حلاقة برأسٍ أصلع، كما انتشرت مقاطع فيديو على مواقع التواصل لمساندين من غزة قصوا شعورهم على الصفر دعما للحالة النضالية الجديدة في الضفة والقدس.

حلاقة "الصلعة" اجتاحت القدس تضامنا مع مخيم شعفاط المحاصر لليوم العاشر على التوالي، بحثاً عن الشاب عدي التميمي، الذي يظهر من خلال صوره الشخصية أنه كان دائما حليق الرأس بدرجة صفر. وتدعي أجهزة الاحتلال أنه نفذ عملية حاجز شعفاط التي قتلت فيها مجندة احتلالية وأصيب آخران، في الثامن من تشرين الأول الجاري.

قص الشعر على الصفر لم يتوقف على الكبار فقط، بل وصل الصغار، في سن الثامنة والتاسعة، الذين دب فيهم الحماس للانضمام لهذا الالتفاف الجماهيري الواسع حول الشاب التميمي.

وفي العامية، ما زال قول: "حلقله على الصفر". دارجاً، بمعنى أهمله، ولم يقم له وزناً.

الخطوة أثارت تحريض الإعلام الإسرائيلي ضد شبان المخيم والقدس، وقالت القناة الإسرائيلية 13، "على غرار عدي التميمي، الذي لا تزال عملية مطاردته جارية، الشبان في مخيم شعفاط والقدس أقدموا على حلق رؤوسهم.

أما مراسلة صحيفة "إسرائيل هيوم" اليمينية دانا بن شمعون، فكتبت على حسابها في تويتر، "في عمل استفزازي ولزيادة صعوبة العثور على الهارب عدي التميمي: شباب في مخيم شعفاط يحلقون رؤوسهم".

مراسل القناة 13 الإسرائيلية، يوسي إيلي كتب على حسابه في تويتر: "إليكم مثالاً عن سبب صعوبة العثور على عدي التميمي: الشباب في مخيم شعفاط حلقوا رؤوسهم بشكل جماعي من أجل التماهي معه حتى لا يجدوه!".

عام 1936 فشل الاحتلال الإنجليزي لفلسطين بالقضاء على الثورة والإضراب ووقف عمليات الثوار ضده. حيث لم يستطع الإنجليز التمييز بين الفلاحين الفلسطينيين الذي ينفذون العمليات ضد الجنود، وبين سكان المدن الفلسطينية خاصة بعد أن فرض الثوار على سكان المدن نزع الطربوش التركي ولبس الكوفية والعقال بدلاً منه حمايةً للثوار. 

حينها، أصدرت القيادة العامة للثورة أمراً في آب 1938 يقضي بأن يرتدي سائر أفراد الشعب الكوفية والعقال فاستجاب الشعب لذلك، وفي غضون أسبوع واحد لم يعد في جميع أنحاء فلسطين لباسا للرأس سوى الكوفية والعقال. لأن الجميع ارتدى الكوفية، الفلاح والمدني، والمثقف، والطبيب. اليوم، وبعد ٨٤ عامًا يتكرر المشهد في مخيم شعفاط بحلاقة الرأس على الصفر، لتكون "الصلعة" في مواجهة كاميرات المراقبة والمطاردة والزنانة.

الكاتب والأكاديمي عبد الرحيم الشيخ، نشر على حسابه في فيسبوك: من فضائل ثقافة الاشتباك الفلسطينية أنها جعلت للصفر قيمة ثورية، فأبدعت، في الأمس، زمان "لحظة الصفر" ومكان "النقطة الصفر"، وأضافت لها، اليوم في مخيم شعفاط، إنسان "الحلاقة على الصفر" كتعبير متقدِّم للسيادة على الرأس-الجسد والأرض والرواية-وحمايته.