ترتبط إذاعة "هنا لندن" في ذاكرتي بالمذياع الخشبي الكبير، الذي كانت الشركات المصنعة تتسابق في ذلك الزمن ليكون قطعة أثاث جميلة في المنزل إلى جانب كونه مصدر الصوت والأخبار والموسيقى والأغاني القادمة من بعيد، من وراء البحار والمحيطات. ربما أول شيء سمعته من ذلك الجهاز الذي كان يتصدر صالون استقبال الضيوف، هو صوت المذيع الذي يقول بصوت رخيم "هنا لندن"، دون أن أعرف ما المقصود، ولم أكن أعرف حتى ما هي لندن، كنت في الرابعة من عمري، عندما لفت نظري الراديو، بالتأكيد كنت أراه وأسمعه ولكن إدراكي له جاء في هذا العمر.

 

كبرت مع "هنا لندن" كانت إذاعة أبي المفضلة والموثوقة، ثم ما لبثت أن اكتشفت أنها إذاعة عمي، وجارنا أبو عمر وكل الكبار، خاصة الرجال من حولي، النساء ولظروفهن في المجتمع الأبوي كن بعيدات فالأب كان يحتكر الراديو، وإذاعة "هنا لندن" كانت إذاعة سياسية إخبارية بالدرجة الأولى.

 

ربما من أكثر اللحظات العالقة في ذاكرتي ضمن علاقتي الشخصية مع الإذاعة البريطانية، هي تلك اللحظة التي قطعت فيها الإذاعة بثها لتعلن نبأ وفاة الرئيس المصري والزعيم القومي العربي جمال عبد الناصر. كنت ووالدي ووالدتي في ملجأ عند أحد الجيران في عمان خلال أحداث أيلول المؤلمة عام 1970 .

 

في تلك اللحظة أردت الهروب قليلاً من الواقع وفتحت راديو الترانزستور الصغير، وكان المؤشر مثبتاً على إذاعة "هنا لندن" كانت الإذاعة تبث في تلك اللحظة برنامجًا لأكثر الأغاني الإنجليزية سماعًا في ذلك الأسبوع، وما زلت أذكر الأغنية عندما انقطع البث فجأة ليقول المذيع "لقد جاءنا هذا الخبر العاجل من العاصمة المصرية القاهرة... أذاعت الإذاعة المصرية الرسمية نبأ وفاة الزعيم المصري جمال عبد الناصر.. وسنوافيكم بالتفاصيل عندما ترد إلينا".

 

لم أصدق أذني وعلى الفور حركت مؤشر الراديو إلى إذاعة "صوت العرب" المصرية، وكانت تبث آيات من القرآن الكريم فتأكدت أن الخبر صحيح. نظرت إلى من كانوا في الملجأ، أبي وأمي والجيران، كنت أعلم ما الذي يعنيه عبد الناصر لكل هؤلاء، وفي تلك الأيام القاسية كان عبد الناصر هو الأمل لوقف نزيف الدم بين الإخوة في عمان، فقد كان يجهد لوقفه بأي ثمن... لم أستطع البوح بالخبر، ربما مرت أكثر من دقيقة بعدها رفعت صوتي وقلت يا جماعة هناك خبر سيئ جدًا جدًا، كل واحد منهم صرخ فلان قتل أو فلان مات من القصف.. قلت لا  لا ...لقد سمعت للتو خبرًا في إذاعة لندن أن عبد الناصر قد مات... صرخ الجميع لا هذا كذب إذاعة لندن تكذب تهدف إلى أن تثبط من عزيمتنا ومعنوياتنا، وخطف أبي الراديو وسمع القرآن وسمع الجميع، وما هي إلا لحظة حتى أعاد مذيع صوت العرب من القاهرة قراءة الخبر...أصيب الجميع بالوجوم ثم بدأ الصراخ والبكاء.

 

كنت في شبابي من المداومين على سماع إذاعة هنا لندن، مثلي مثل الكثيرين من أبناء جيلي،  فالراديو كان إلى جانب الصحف المصدر الوحيد للمعلومات والأخبار. وكانت إذاعة لندن تبث برامجها على ثلاث فترات في النهار، الفترة الصباحية من الساعة السادسة صباحا حتى الساعة العاشرة وتتوقف، ثم تعود الساعة الثالثة إلا ربعًا بعد الظهر حتى الخامسة مساء، والفترة الأخيرة من الثامنة مساء حتى الساعة العاشرة والنصف ليلاً.

 

اكتشفت مبكرًا لماذا كانت إذاعة لندن تحظى بمصداقية خاصة عند جيل والدي ومن بعده، باختصار لأن عديد الإذاعات العربية كانت إذاعات أنظمة، بعيدة كل البعد عن  المصداقية. أذكر خلال حرب عام 1967 من كان منا يستمع لإذاعة صوت العرب القاهرية أو إذاعة دمشق  وغيرها من الإذاعات العربية كان يعتقد أن الجيوش العربية على وشك دخول تل أبيب، فقط إذاعة هنا لندن كانت تنقل الأخبار كما هي، بالطبع مع بعض الانحياز لإسرائيل.

 

وتساءلت عن تراكم المصداقية هذه، ربما يمتد بالنسبة لجيل الآباء والأجداد إلى تجربة حرب  فلسطين عام 1948، فلم يكن أمام من يبحث عن الأخبار الأكثر صدقية سوى الاستماع لهنا لندن، لأن الإذاعات العربية كانت في حينه تبث البيانات العسكرية الكاذبة، وبالطريقة ذاتها في حرب عام 1967 كانت الجيوش العربية جميعها تتقدم وتحرز الانتصارات...!!!؟؟

 

لذلك كان أبي وغيره يرددون نصدق إذاعة لندن ولو كذبت، وعلينا نحن أن نميز الخبر الصح من الخطأ، وكيف يدس السم في العسل، ولكن بقيت الإذاعة تتمتع بمتابعات واسعة .

 

في صيف عام 1986، أثتاء تواجدي في لندن، سنحت لي الفرصة لزيارة مبنى هيئة البث البريطانية BBC، والتي من ضمنها إذاعة "هنا لندن" الفرصة هيأها لي ابن عمي ماهر عثمان الذي كان واحداً من  أبرز العاملين في الإذاعة آنذاك، إلى جانب حسن الكرمي وماجد سرحان وسلوى جراح وآخرين. هناك في القسم العربي التقيت بصحبة ماهر بعدد من المثقفين العرب من بينهم الروائي السوداني الكبير الطيب صالح، وشعراء وكتاب كانوا هناك.

 

 

 قبل أسبوع صمتت "هنا لندن"، بقرار من إدارتها وبررته أنه لأسباب مالية، قد يفرح البعض ويحزن  آخرون، أما أنا فإنني كإعلامي أحزن مع كل وسيلة إعلامية تصمت .

 

المصدر: الحياة الجديدة