هذا هو سؤال المحك للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط، خصوصاً أن الولايات المتحدة الأميركية لا تدع مظلمة تاريخية إلا وتضعها على أجندتها وأجندة العالم وتعمل على تسليط كل الأضواء عليها، والأمثلة على ذلك كثيرة كان آخرها مذبحة الأرمن التي جرت في مطلع القرن العشرين إبان عهد الإمبراطورية العثمانية.
عضوة مجلس النواب الأميركي، فلسطينية الأصل، رشيدة طليب وضعت إصبعها على العيب الأكبر في السياسة الخارجية الأميركية، المتعلق بكيلها بمكيالين عندما يتعلق الأمر بإسرائيل، وفي سياق ذلك لا يتم السماح، في الكونغرس على وجه الخصوص، طرح أي قضية تمس بالدولة العبرية، بل على العكس من ذلك يتم تبني كل ما تتمناه تل أبيب وأكثر.
بالتأكيد، هي مبادرات إيجابية التي يقوم خلالها الكونغرس بتسليط الضوء على قضايا تعرض خلاله شعب من الشعوب إلى ظلم أو فاجعة، وذلك بهدف تأسيس معايير أخلاقية تمنع تكرار ما هو وحشي وعنصري في التاريخ البشري، ولكن ما هو غير مقبول أن يكون ميزان الكونغرس ليس ذاته مع كل الشعوب ومع كافة القضايا. وما هو غير مقبول أن تستخدم قضايا انسانية، لا خلاف على عدالتها، بهدف تمرير سياسة أميركية، أو فرض الهيمنة على الشعوب والدول الأخرى.
نتمنى أن تنجح مبادرة طليب ويتبنى الكونغرس قضية النكبة الفلسطينية، خصوصًا أنها حدث لم يحصل في زمن ما وانتهى، فهي أزمة إنسانية وسياسية كبيرة لا تزال تنزف وتخلق توترًا وعدم استقرار في المنطقة والعالم، وأن هناك ملايين الفلسطينيين لا يزالون لاجئين منعوا من العودة لوطنهم بعد مرور 74 عامًا، وملايين الفلسطينيين تحت الاحتلال أو يعانون من  سياسات التهميش والعنصرية داخل إسرائيل. فالكونغرس إذا ما أراد نموذجا لقضية عادلة فإن الفرصة أمامه اليوم. ربما لا يعرف بعض أعضاء الكونغرس من الأجيال الشابة، ان بلادهم، تتحمل مسؤولية لا تقل عن مسؤولية بريطانيا في حصول النكبة والفاجعة التي حدثت للشعب الفلسطيني عام 1948, فقد كانت واشنطن شريكًا قوياً في صياغة وعد بلفور عام 1917، ودورها في تحفيز بريطانيا أكثر على تنفيذه، وواشنطن كانت أحد أهم عرابين  قرار التقسيم عام 1947, والمسارعة للاعتراف بدولة إسرائيل مع علمها أن كل ذلك كان يتم على حساب الشعب الفلسطيني، الذي دمرته إسرائيل كشعب ومجتمع وكيان.
صحيح أن الولايات المتحدة، وعندما شعرت في مطلع عام 1948 أن قرار التقسيم قد أخذ الوضع في فلسطين إلى حرب أهلية دموية، حاولت تأجيل تنفيذه من خلال مشروع قرار يضع فلسطين تحت وصاية الأمم المتحدة لمدة خمس سنوات، إلا أن قيادة الحركة الصهيونية تحركت على وجه السرعة وأفشلت الاقتراح في مهده، ومن ثم واصلت واشنطن إغماض أعينها عن أوسع وأبشع عملية تطهير عرقي  شهدها التاريخ المعاصر للشعب الفلسطيني. وصحيح أن الولايات المتحدة بقيت تتبنى رسميا القرار 194، الذي ينص على عودة اللاجئين الفلسطينين وتعويضهم، لكنها كانت العقل المدبر لمشاريع توطينهم في الدول العربية في خمسينيات القرن العشرين بهدف تصفية القضية الفلسطينية.
ولاحقًا، وخصوصًا بعد حرب 1967, أصبحت الولايات المتحدة الداعم الأكبر لإسرائيل سياسيًا وماليًا وعسكريًا، وهي من قطع وعدًا لتل أبيب بأن تحافظ على أمنها وتفوقها العسكري في المنطقة، ولا تزال تلتزم بهذا الوعد بشكل حاسم وذلك بالتوازي مع وعد اخر بعدم اتخاذ أي قرار بخصوص القضية الفلسطينية دون الرجوع لإسرائيل والعمل والتنسيق الكامل معها.
أما التطور الأكثر خطورة في السياسة الأميركية، جاء مع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، الذي كان صهيونيًا أكثر من اللوبي الصهيوني نفسه وحتى أكثر من قوى سياسية في إسرائيل ذاتها، فقد سارع  ترامب في شهر كانون الأول/ ديسمبر عام 2017 لإعلان نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، وأن تكون هذه الأخيرة "عاصمة أبدية للشعب اليهودي"، كما حاول تصفية قضية اللاجئين الفلسطينين، عبر تجفيف كل أشكال الدعم لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينين "الأونروا". ومن ثم تصفية القضية الفلسطينية برمتها مع طرح صفقة القرن، بالتزامن مع إقفال مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن وقطع جميع المساعدات المالية عن السلطة الوطنية الفلسطينية.
لكل ما سبق، وبالرغم من إدراكنا أوجه الاختلاف السياسية بين إدارتي ترامب وبايدن، فإننا نعلم كم هي مهمة النائبة الشجاعة رشيدة طليب صعبة وحتى شبه مستحيلة، ولكن هل نبقى مكتوفي الأيدي وننتظر فرج التغيير ليأتينا دون أن نحاول؟
الإيجابي وما يمكن أن يمنحنا الأمل، أن هناك بوادر تغير في مواقف أوساط عديدة من الرأي العام الأميركي، وحتى داخل الحزب الديمقراطي ذاته لذلك فإن خطوة طليب قد تسهم في تطوير هذا التغير، ولكن ما تحتاجه هذه المبادرة الشجاعة، التي تتمثل بتقديم مشروع قرار يعترف الكونغرس بموجبه بنكبة الشعب الفلسطيني، هو تقديم كل أشكال الدعم لها، وخاصة من الجاليات الفلسطينية والعربية في الولايات المتحدة الأميركية وتشكيل شبكة تمتد إلى كل الولايات، وتنظيم وقفات ومسيرات بشكل متواصل أمام الكونغرس في واشنطن تدعم المبادرة.
هناك أساليب كثيرة للعمل، وقيادات هذه الجاليات هم بالتأكيد أكثر خبرة منا نحن البعيدين، ولكن من أهم الطرق للتأثير هي تخصيص فريق من الشباب والشابات العارفين والمطلعين على ما تعنيه النكبة، يقوم هؤلاء بالاتصال اليومي المباشر مع أعضاء الكونغرس وتقديم المعلومات لهم.
أما من خارج الولايات المتحدة، فيمكن تقديم العرائض للسفارات الأميركية في كل عواصم العالم، والأهم أن ندرك نحن أنفسنا أهمية أن يعترف الكونغرس الأميركي بالنكبة، لأن هذا الأمر أن حصل فيعني أن أميركا قد تغيرت وأصبحت أكثر توازناً وانصافًا، قد يبدو ذاك مستحيلاً، ولكن متى كان في السياسة مستحيل؟


*المصدر: الحياة الجديدة*