لم تتردّدِ الأمّةُ لحظةً في الوقوفِ إلى جانبِ مصرَ عبد النّاصر عندما تعرّض هذا البلدُ العربيُّ عام ١٩٥٦ للعدوان الثلاثي الإسرائيليّ-البريطانيّ-الفرنسيّ، هذا العدوان الذي لم يكن سوى محاولةً لمنع انهيار الامبراطوريتين البريطانية والفرنسية ولتثبيت دعائم دولة الاحتلال الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي في فلسطين. لقد كان موقف الجماهير والأنظمة العربية أحد أهم أسباب فشل هذا العدوان بكل ما نتج عن هذا الفشل من تنامي للدور القومي والأمميّ لمصر عبد الناصر وما رافق هذا الدّور من دعم للثورة الجزائرية ولحركة "فتح" في بدايات انطلاقتها، وكذلك لكلِّ حركات التحرر الوطني في ما يسمى بدول العالم الثالث.

 

العدوان الثلاثيُّ الجديدُ الذي تمّ الإعلانُ عنه في البيت الأبيض، والذي تقوده إدارة ترامب ويضمّ دولة الاحتلال وحكّام الإمارات ليس بعيدًا في أهدافه التي يسعى إلى تحقيقها عن عدوان ١٩٥٦، بل هو استكمالٌ لها بعد أن تمّ التجهيز له عبر سنوات طويلة من تدمير القدرات العربية وتمزيق الدول العربية تباعًا تحت رايات الحروب الطائفية البغيضة وبحجة التصدي لأخطارٍ وهمية اختلقتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة. فقد جنّدت الأنظمة العربية نفسها واصطفّت على جانبَي متراس الاقتتال حتى انهكت ذاتها وبدّدت طاقاتها وقدراتها في حروبٍ لا ناقة لها فيها ولا بعير. ومن تابع هذا المسلسل الدامي يعرف كم كان الصوتُ الفلسطيني عاليًا وهو يطالبُ بوقف عملية الانتحار الجماعي، وكم كان التحذير الفلسطيني محقًّا وهو ينذِرُ بأنَّ فلسطين هي الخاسرُ الأكبرُ من اقتتال الإخوة والجيران ومن التّدخلات الإقليمية ومن العبث بوحدة الدول العربية وبثّ الفوضى والإرهاب الأعمى في كل أقطار الوطن العربي. كنّا نصرخ وحدنا وكنا على يقينٍ أنَّ مشروع "الفوضى الخلّاقة" الذي تناوبت على تنفيذه إداراتٌ أمريكيةٌ عديدةٌ لم يكن سوى تجهيز للمنطقة لكي تصبح قابلةً للإذعان للهيمنة الإسرائيلية.

 

لقد ساهم حكّامُ الإمارات في تخريب وتمزيق الوطن العربيّ مثلهم مثل كل الأطراف التي ارتضت لنفسها خوض المعارك والحروب الدموية في سوريا واليمن وليبيا وغيرها من الدول التي ينتشي المتقاتلون فيها من انتصار خناجرهم على رقاب إخوتهم. كما كان لحكام الإمارات دور بغيض في التدخل في الشأن الداخلي الفلسطيني واحتواء بعض العناصر التي لفظها شعبنا ومؤسساتنا الوطنية. لقد ظنّ هؤلاء الحكام أنهم يستطيعون شراء الذمم في فلسطين مثلما يشترون بعض الأقلام الرخيصة في الصحف الصفراء، لكنّ هذه العقلية "التجارية" لا تجدي نفعاً مع شعبنا الصامد في وطنه والذي يتقن التمييز بين الغثّ والسمين، ففي الوقت الذي يمقتُ فيه شعبُ فلسطين وقيادته سياسة حكام الإمارات ويرفضها إلا أنه يصرُّ على التمسّك بعروبته وبالوفاء لانتمائه القومي، وهنا لا بدّ من التأكيد على أن من أهم تجليات الوفاء هو ما نكنّه من احترام وتقديرٍ لشعب دولة الإمارات العربية المتحدة الشقيقة، شعب الشيخ زايد- القائد العربي الذي اختار دائماً الوقوف إلى جانب فلسطين، ومثلما توفّر الإمارات مكان عمل ومصدر رزقٍ لآلاف الفلسطينيين، فإن أبناء شعبنا الأوفياء لمضيفيهم يساهمون في بناء الدولة الشقيقة بكل إخلاصٍ وأمانة وبعملٍ دؤوبٍ يشهد له القاصي والداني.

 

لن يغيّر العدوان الثلاثيّ الجديد من الحقائق على أرض فلسطين ولن تتبدّل طبيعة الصراع الذي يخوضه شعبنا باسم الأمة كلها منذ ما يزيد على مئة عام، فحسمُ الصراع وهزيمة المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني لن يتم إلا بالجهد الذاتي الفلسطيني أولاً وبوحدة شعبنا وتماسكه، ورغم أهمية الدعم الذي يجب على الأمة توفيره لشعبنا من أجل استمرار صموده في وطنه إلاّ أن تقاعس بعض الحكام عن القيام بواجبهم ليس سبباً لبثّ اليأس والإحباط في قلوبنا وعقولنا، فنحن شعبٌ اعتاد على خوض الصراع وحيداً وتمرّس في القدرة على قول "لا" كبيرة للكبير والصغير على حدّ سواء: بدءًا بترامب وانتهاءً بحكام الإمارات الذين يسوقون حججًا واهيةً لتبرير خيانتهم لفلسطين، مثل تأجيل ضمّ الأغوار الفلسطينية، علماً بأن هذا الضمّ إن حدث فلن يغيّر من طبيعة الاحتلال ولن يمنحه الشرعية، تماماً مثلما لن نغيّر من تصميم شعبنا على مواصلة النضال من أجل إنجاز حقوقه الوطنية التي تحظى بإجماع وطني وعربي ودوليّ، وهو إجماعٌ خرج عنه حكّام الإمارات عندما خانوا القدس وفلسطين وشعبها.

 

*ما الذي تبدّل بين العدوان الثلاثيّ عام ١٩٥٦ والعدوان الثلاثي عام ٢٠٢٠؟ إنه الصمت المخجل الذي يلفّ معظم العواصم العربية ويجعل منها شريكًا في العدوان الجديد. ورغم هذا الصمت الرسمي فإنّنا لن نفقد ثقتنا بأنفسنا أولاً ولا بأمتنا وجماهيرها التي انتصرت دومًا لفلسطين. 

 

وارسو/بولندا

١٦-٨-٢٠٢٠

أمين سر حركة "فتح" - إقليم بولندا د.خليل نزّال