لعبة السياسة لا تعرف الثوابت والمحرمات، بل تغوص حتى الركب في رمال المصالح الخاصة للدول والقوى والأحزاب والشخصيات، دون أن يعني ذلك، التخلّي عن محددات أساسية لأي فريق يبحث عن مكان له تحت شمس المشهد السياسي، لأنَّ المصالح تقوم على قاعدة التنازلات المتبادلة، وتسقط من حسابها منطق "يا أبيض يا أسود". هذا منطق لا يستقيم ولعبة السياسة. لأن الشرط الأساسي للاعب السياسي يتمثل في تحقيق أكبر قدر من المكاسب التكتيكية في لحظة ومنعطف سياسي محدد، وقدرته الإبداعية تكمن في مراكمته لإنجازات كمية، كخطوة للأمام لبلوغ اللحظة النوعية. وبالتالي السياسي الشاطر والمبدع يتخلى كليا عن منطق "يا كل شيء، أو ولا شيء"! لأن المنطق الأخير تنتج عنه خسائر متتالية، ويضيع فرصا ممكنة، أو قابلة للتحقق.
وحتى لو لم ينجح القائد السياسي في بلوغ ما يريد من خلال مبادرة ما تجاه عدوه، أو خصمه السياسي، يكون بالتقدم نحوه جرده من نقاط قوة لديه، واضعفه أمام أنصاره والرأي العام المحلي والإقليمي والدولي، ارتباطا بطبيعة القضية والمبادرة المطروحة.
ولما ذكر أعلاه عميق الصلة بتفوق ايمن عودة، رئيس القائمة العربية المشتركة على نفسه وأقرانه من قادة الأحزاب الأخرى المنضوية تحت لوائها، عندما ادلى بتصريح شجاع لصحيفة "يديعوت أحرونوت" يوم الأربعاء الموافق 21/8/2019، أكد فيه، أنه سيوصي الرئيس الإسرائيلي، رؤوبين ريفلين بعد الانتخابات القادمة (17/9) بتكليف زعيم تكتل "كاحول لافان"، بيني غانتس بتشكيل الحكومة القادمة. وربط ذلك بشروط أربعة: أولاً ان يطلب غانتس ذلك من عودة نفسه، وأن يتعهد ببناء ركائز المساواة للمواطنين الفلسطينيين مع اليهود؛ ثانيا أن يتعهد بإلغاء قانون "القومية الأساس للدولة اليهودية"؛ ثالثًا الالتزام بخيار حل الدولتين على حدود الرابع من حزيران 1967؛ رابعًا الاستعداد للتفاوض مع القيادة لفلسطينية، الشريك الأساسي للسلام.
هذا الموقف الدراماتيكي الإيجابي، لا يمكن أن يبادر له مراهق سياسي، ولا بالمقابل يتبناه متطرف سياسي، إنّما رجل يملك ناصية وملكة الإبداع السياسي، وإدارة الصراع من داخل أنفاقه، ومتاهاته، ومنزلقاته، وسراديبه، وكسر التابوهات الصنمية للعبة السياسية. ومن موقع الإدراك إلى أنَّ مجابهة القوى الصهيونية بتلاوينها المختلفة، وتحطيم ركائز اليمين المتطرف بزعامة نتنياهو، وانتزاع حقوق ومصالح الشعب في التجمعات الأساسية، كما حدد في شروطه الأربعة تكمن في الغوص بين مكوناتها، وطرح الرؤية الوطنية على أرضية التشارك مع بعضهم، ومع من لديه الاستعداد للشراكة السياسية. لا سيما وان ثقل وزن الجماهير الفلسطينية في تزايد مستمر داخل إسرائيل
لكن هذا الموقف المتميز جوبه بردود فعل سلبية في اوساط القوى الإسرائيلية والفلسطينية. والملفت أن عددا من قادة "أزرق ابيض" كـ"يئير لبيد" و"يوعز هندل" دون أن يدققا في ما أعلنه عودة، أعلنا مواقف عنصرية تافهة، تعكس جبنهم، ورخصهم، ودونيتهم أمام تغول اليمين المتطرف، حيث رفض هندل مبدأ الشراكة مع القائمة المشتركة، وبطريقة ملتوية صاغ لبيد موقفه، رافضا أيضا الشراكة. ونفس الشيء في الجانب الفلسطيني العربي، رفضت بعض القوى المشاركة في القائمة مبادرة الشاب ايمن، واعتبرت مواقفه، بانها تصب في صالح اليمين والأسرلة للشارع الفلسطيني. وهذا غير صحيح، ولا يمت للحقيقة بصلة. لأن من يركض في دوامة الأسرلة، هم أتباع الشين بيت والموساد، والعدميون، أمّا عندما يحدد مطالبه بوضوح لبناء شراكة مع تكتل بيني غانتس، ويدخل الحكومة على أساس ذلك، فهو يقلب كل قواعد لعبة الشطرنج الإسرائيلية، ويفرض عليهم قواعد ومبادئ جديدة، ومختلفة، لا بل متناقضة مع محددات السياسة الإسرائيلية الاستعمارية التاريخية.
ودون الدخول في مناقشة أصحاب وجهات النظر الأخرى، فإن مبادرة المحامي الشاب ايمن عودة، تعتبر فتحا جديدا في السياسة للقوى الفلسطينية في الجليل والمثلث والنقب والمدن المختلطة، وما طرحه رئيس القائمة يعبر عن مصالح الأغلبية الفلسطينية في داخل الداخل حسب استطلاعات الرأي، التي جرت في أعقاب إدلائه بالتصريح المذكور. ومع ذلك على عودة أن يشارك أقرانه في القائمة المشتركة توجهاته السياسية. صحيح القائمة هي ائتلاف من عدد من القوى، لكنه يقف على رأسها، وعليه الاستئناس برأي رفاقه وزملائه في القائمة، أو وضعهم في صورة ما سيبادر لإعلانه، حتى لا يُفاجَؤوا بما ينشر على لسانه.