عادة يكون سقوط المشاهير من الساسة والفنانين ورجال المال والأعمال والدين سقوطًا مدويًّا، تهتز من تداعياته قوى ونخب وأطر، وقد تصيب المجتمع برمته. في مثل هذه السقطات لا يكون السقوط عابرًا، ولا هامشيًّا، أو غير ذي شأن، بل العكس صحيح جدًا. وكلَّما كان الإنسان الهاوي نحو القاع ذا شأن أكبر وأهم في مجتمع ما، كانت الاهتزازات أعظم، وأكثر صخبًا، وشظايا السقوط القنبلة تكون أكثر دويًّا وتأثيرًا على المجتمع والقوى الفاعلة فيه.

سقوط بنيامين نتنياهو يوم الأربعاء الماضي (29 مايو/ أيار 2019)، واضطراره وحزبه التصويت على حلِّ الكنيست الـ٢١ بعد مضي شهر على أداء يمين القسم لنوابها، هو سقوط من العيار الثقيل، هزَّ المجتمع الإسرائيلي عمومًا واليمين المتطرف خصوصًا، ووصلت شظايا سقوطه للبيت الأبيض الأميركي، وطالت أركان الإدارة الترامبية وصفقة العار الملعونة. هوى من أعلى قمة الهرم السياسي الإسرائيلي متدحرجًا، لم يجد يدًا توقف سقوطه نحو المستنقع الآسن، حتى أقرب مريديه، وأنصاره من القوى اليمينية المتطرّفة ذهبت إلى مقصلة الانتخابات القادمة على عيونها، مجبرة ومرغمة على ذلك، ولاعتقاد القائمين عليها، أنَّها أفضل الخيارات.

كان نتنياهو يصارع حتى ربع الدقيقة الأخيرة ليحول دون الذهاب إلى الانتخابات للكنيست الـ٢٢. لكنَّه فشل، وتمكّن ليبرمان خصمه اللدود من تصفية حساب كبير وطويل بينهما، على ما يبدو له علاقة بما كان بينهما منذ عمل معه مديرًا لمكتبه حتى استقالته من وزارة الحرب في تشرين الثاني/ نوفمبر 2018.  لم يرحم ليبرمان حليف الأمس، ولم يذرف الدموع على سقوطه، بل بكى فرحًا. وبات حلم نتنياهو في البقاء على رأس الحكومة، وتشكيل حكومته الخامسة، والهرب من دوامة قضايا الفساد، التي تطارده، والحؤول دون دخول السجن من نسج الخيال، وباء طموحه بالفشل والهزيمة المريعة. 

وهنا تبرز أسئلة عديدة في ظل الواقع الجديد، هل يبقى نتنياهو على رأس الليكود؟ هل يسمح أقرانه وخاصة خصومه له بالاستمرار على رأس الحزب، أم يرفضون ذلك؟ هل يبقى بيبي في الليكود، أم ينشق عنه؟ هل يتحالف مع سموتيرطش وأقرانه في اليمين الفاشي؟ هل تحول التطورات السياسية الجارية في (إسرائيل) والإقليم دون سقوطه؟ هل يذهب للحرب على قطاع غزة ليُعيد الاعتبار لمجده في الوقت الضائع؟ أم يذهب للحرب مع حزب الله، أو باتجاه إيران؟ وهل إعلان أية حرب حاليًّا يخدم توجهه أم العكس؟ أم يلجأ للبحث عن فضائح لخصومه ومنافسيه؟ وفيما إذا بقي على رأس الليكود، هل يبقى أقرانه أمثال ساعر خصمه الصعب ومن معه داخل الليكود، أم يذهبون للانشقاق عنه، ويتركونه وحيدًا مع من هم على شاكلته؟ وما هو مصير الليكود والخارطة الحزبية في (إسرائيل)؟

من المؤكّد أنَّ الملك نتنياهو سقط، وكنتُ قبل أيام أشرتُ إلى أنَّ نجمه آيل للسقوط، وأنه يمضي بخطى حثيثة نحو الأفول، ويسير دون تردد إلى أقبية زنازين السجن ليُمضي بقية حياته هناك كعقاب على قضايا الفساد الأربع، التي تلاحقه على مدار الساعة. ومهما ادّعى بعض أقرانِه ومريديه في الليكود من "الجزم" أنه باقٍ على رأس الحزب، فهو ادّعاء لحظِي ووهمي وانفعالي، مرتبط باللحظة الأولى للهزيمة المدوية. لكن مع برود الجرح، وتصاعد حدة الآلام، سيصحوا زعماء وكوادر وقواعد الليكود على المصيبة، التي سبَّبها لهم وجود نتنياهو على رأس الليكود، ومحاولاته البائسة والمسعورة لسن قانون الحصانة الفرنسي، لحماية ذاته من السجن، أضف إلى أنه ضاعف من حدة أزمة الحزب، ومن ردود الفعل الحزبية والاجتماعية والقضائية ضده، وضد من يقف معه في الشارع الإسرائيلي. وذات الشيء ينطبق على استطلاعات الرأي الراهنة، والتي لا تفصل بين فوز اليمين، وبين بقاء نتنياهو، وهو خلط متعمَّد لطمأنة نتنياهو وأقرانه، أنه الملك المتوج إلى ما شاء الله. نعم اليمين هو صاحب حصة الأسد في الانتخابات القادمة، لكن من دون "بيبي".

من البديهي وشبه المؤكّد أن يجري الليكود تغييرًا في مركبات قائمته الانتخابية القادمة، والاحتمال أن يطاح بنتنياهو من رأس القائمة لإفساح المجال أمام الحزب لينجو من تبعات قضايا الفساد، التي تطارد زعيمهم. وفي حال تشبث بالبقاء، ووقف معه مريدوه، إن كانوا يشكلون الأغلبية داخل الليكود، فهذا قد يدفع بالآخرين، أمثال جدعون ساعر والمستائين من وجود بيبي، إلى شق الحزب، أو دفع الزعيم الساقط للخروج من دائرته. وقد يستبق نتنياهو أية خطوات دراماتيكية داخلية للجوء لخيار افتعال حرب على جبهة المحافظات الجنوبية (غزة)، أو مع حزب الله، أو حتى توجيه ضربة لإيران مستفيدًا من المناخ الإقليمي والدولي ليخلط الأوراق، ويحتفظ بمكانتة الزعاماتيه، غير أنَّ هكذا خطوة لا تنقذه، وقد يكون لها انعكاسات أخطر عليه وعلى (إسرائيل). إلّا أنَّ المؤكّد أنَّ رئيس الحزب المهزوم لن يترك أي سيناريو أو باب دون أن يطرقه، ويضعه على طاولة حسابات الربح والخسارة، لأنه مسكون بكرسي الحكم أكثر من أي شيء آخر. وسيعمل مع حليفه المسيحي الأفنجليكاني المتصهين، ترامب وفريقه الصهيوني الاستعماري على تجاوز المحنة لتمرير صفقة القرن الفضيحة. لن يستسلم بيبي بسهولة لاشتراطات الهزيمة المرة. 

غير أنَّ كل ما تقدّم لن يمنح زعيم الليكود الساقط حبل النجاة، وأعتقد أنه في الانتخابات القادمة حتى لو بقي على رأس الليكود، وبقيت الأمور على حالها، ولم تحدث أية تطورات دراماتيكية داخل الليكود، فلن يحصد الأغلبية، رغم أن الشارع الإسرائيلي شكل نسبيًّا حماية له خلال الانتخابات الماضية، لأنّه لم يجد زعيمًا وملكًا بديلاً له. لكنه في الانتخابات القادمة، على ما يبدو لن يحظى بالحماية، وسيكون مآله التراجع، والانكفاء ثُمَّ السجن، ولن يحصل الليكود على الأغلبية. مئة يوم باقية للانتخابات القادمة، ستمضي سريعًا، وتحمل في ثناياها العديد من السيناريوهات، التي تمَّ طرحها، أو ما لم يخطر لنا على بال، وتجيب على أسئلة التحدي النتنياهوية، الملك الساقط.