منذ تسرب خبر مرض الرئيس أبو مازن الذي تماثل للشفاء في أعقاب عملية مؤجلة أجراها في الأذن ولم يستمع بعدها لتعليمات أطبائه بنقاهة قصيرة، إذ مارس العمل في اليوم التالي، مما ضاعف الأعراض التي أدت إلى التهاب في الرئة. منذ تلك اللحظة والجدل يدور والشائعات تحاول أن تمتلك أرجلاً لتقف بعد أن امتلكت أجنحة لتطير، إذ كان هناك من ينفخ فيها ويروّج ويريد الاصطياد في حالة عادية تصيب أي شخص.

أن يمرض الإنسان فذلك شيء عادي ولكن أبو مازن كان محظوظًا بأعداء وخصوم جعلوا من أي وعكة عنده سلعة يبيعون فيها ويشترون فهذه ليست المرة الأولى ولا حتّى العاشرة منذ أكثر من عقد من الزمان إذ كلما استغلق على خصومه أمر استبدلوا مواقفهم بالشائعة عن صحته.

أبو مازن في معادلة الصراع، رقم صعب، لأنَّه يمثل قضية مهمة وحساسة، في طرفها إسرائيل التي تحظى بدعم غربي خاصة من الولايات المتحدة الأمريكية التي تماهى موقفها مع الموقف الإسرائيلي إلى درجة لم يعد سهلاً الفصل بين الموقفين، خاصة حين انحاز الرئيس الأميركي ترامب إلى جانب المواقف الإسرائيلية وزايد عليها، وكان فيها ملكيًا أكثر من الملك. بل أنَّ كثير من الإسرائيليين يعتبرون أنَّ هذه الإدارة الأميركية تزج بإسرائيل في مواقف غير محسوبة وتشجعها على القيام بهذه القفزة في الهواء.

أثبت الرئيس محمود عبَّاس أمام اندفاع الأحداث وقتامتها والتي وصلت ذروتها بالموقف الأميركي الأرعن في اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها أنَّه رجل صلب لا يخاف، وأنَّه مؤمن بقضية شعبه ومتسلح بإرادة هذا الشعب الذي ظلّ صامدًا مكافحًا في وجه أعتى حركة استعمارية في التاريخ، وهي الحركة الصهيونية وتعبيرها إسرائيل منذ أكثر من قرن من الزمان.

أبو مازن أثبت للقاصي والداني أنَّ "عظمه أزرق" وأنَّ مواقفه مبدئية حين يتعلق الأمر بحقوق شعبه، ولذا كان صدامه مع الإدارة الأميركية التي حاولت القفز فوق حقوق الشعب الفلسطيني معتقدة أنَّها تستطيع أن تبتز الرئيس عباس، وأن ترعبه، ولكنَّه بدل ذلك صمد واحتسب موقفه في نضال شعبه ومضى يشرح للعالم موقفه في عدم قبول الموقف الأميركي وسيطًا في عملية السَّلام، فهذا الموقف الأميركي منحاز وغير قادر أن يتعاطى مع القضية الفلسطينية بشكل يضمن لهذه القضية أن تستشرف الحل.

صلابة موقف الرئيس أبو مازن الذي لم يكن يفكر في عزل الولايات المتحدة ولا حتَّى إسرائيل وإنَّما في جعلهما يدركان خطر تعطيل وضرب عملية السَّلام وكذلك جاء الموقف عكسيًا إذ أن الرئيس عبَّاس بموقفه المبدئي الصامد وشبكة علاقات فلسطين الدولية وقبول العالم الغربي في معظمه لخطابه وتفهم موقفه استطاع أن يعزل إلى حد كبير موقف الإدارة الأميركية ويفضح انحيازها في العالم لتظهر كما أنَّها تمارس العدوان وتمعن في التعدي ليس على الشعب الفلسطيني من خلال دعمها لحكومة الاحتلال الإسرائيلية وإنما الاعتداء على الشرعية الدولية وما تمثله لدى دول العالم.

الولايات المتحدة التي اعتقدت أنَّ الضغط الذي تمارسه تستطيع أن تجعل الرئيس أبو مازن يستسلم لإدارتها أدركت الآن أنَّها واهمة رغم أنَّها استعملت كل الوسائل الممكنة لها للتحريض عليه ومحاولة استعمال تحالفاتها الدولية والإقليمية والعربية في هذا السياق، ولكن أثبت الرئيس أنَّه رقم صعب وأنَّه يمثل قضية عادلة وإنسانية وأنَّه يمتلك رؤية سلام وخطاب يستهدف حلاً عادلاً أدرك العالم فحواه وهو يستقبل الرئيس في عديد من العواصم كان آخرها عواصم في دول أميركا اللاتينية.

لقد جاء الحصاد الذي زرعه أبو مازن منذ تولى المسؤولية قبل أكثر من عقد من الزمان وفير، وجاء يحصن حقوق الشعب الفلسطيني ويعلي من شأنها ولعل القرار الشجاع الأخير الذي تبناه الرئيس أبو مازن في تقديم عضوية فلسطين وما ترتب على العضوية من تقديم الملفات التي تدين إسرائيل بارتكاب جرائم حرب لدى محكمة الجنايات الدولية. هذه الخطوة الشجاعة جاءت في زمن اعتقد البعض أنَّ الرئيس الذي تحاول الإدارة الأميركية ابتزازه لن يقوى على اتخاذ هذه الخطوة الشجاعة والتي تنسجم مع موقفه التاريخي في جعل فلسطين تنتظم في عشرات المنظمات الدولية بمسمياتها المختلفة، وفي عدم التردد في الذهاب إلى أخر الطريق. لقد راهن أبو مازن ذو النفس الطويل على أن يدرك العالم والولايات المتحدة ضرورة الأخذ بحق الشعب الفلسطيني والعمل على تجسيده في دولة مستقلة على ترابه الوطني وعاصمتها القدس الشرقية، من خلال مبدأ حل الدولتين. وبقي إلى آخر لحظة يرى إمكانية الاستفادة مما يمكن أن ينجز ولكن الإدارة الأميركية التي قلبت الطاولة وألغت كل فرصة للسلام أرادت أن تخيفه، لكنّها وجدت أنَّ ردة فعل الرئيس أبو مازن جاءت عكسية وأنه ذهب في طريق استمرار نضال شعبه واستمرار توظيف رؤيته لعملية السَّلام بشكل يجعل العالم أكثر قبولاً ورغبة في إحداث تحولات لصالح القضية الفلسطينية.

لن يوقف أبو مازن المرض وإشاعات المرض ولن يوقفه سياسات التخويف والتنكر والحصار والضغط، فالرجل يعرف ما يريد ويعمل من أجل ما ظل دائمًا يريده وهو سلام عادل يضمن عودة الحقوق الوطنية لشعبه.

يعمل الرئيس أبو مازن الآن في مرحلة صعبة ومعقدة وقد تعود في حياته على مثل هذه الأجواء من قبل، فقد خاض في حياته كل مراحل الكفاح الفلسطيني الحديث منذ انطلاق الثورة المجيدة في عام 1965، وما زال يعمل ويرى أنَّ الراية الفلسطينية لا بد أن تبقى خفاقة وأنَّ ترامب في صفعته وعنجهيته وإسرائيل في عنصريتها ويمينها لن تنال من صمود هذا الشعب الذي ساعدت المخططات الخارجية في إحداث انقسام فيه.

لن يخطئ أبو مازن الهدف ولن يضيع البوصلة ولن يستسلم فهو الأمين على نضال شعبه وهو الذي ظلَّ يدرك أنَّ لهذا النضال أساليب، ووجوه اختار فيها نموذج "مانديلا" ونموذج "غاندي" ليكون له بتفرد نموذج عباس الذي سيذكره له العالم لاحقًا وسيقدر شعبه له أنه كان مخلصًا في انقاذ الشعب الفلسطيني.

تحت الاحتلال في الضفة الغربية وشرق القدس من إلحاقه بنموذج غزة المحاصرة والموضوعة برسم الإبادة نتاج تصرفات معسكرات حماس التي ظلت تراهن على معطيات واهنة وعلى أدوار لدول إقليمية لم تقدم للشعب الفلسطيني سوى الشعارات.

أبو مازن في صلابته اليوم لا يريد أن يتقمص شخصية "جيفارا" ولا يفتعل الصلابة افتعالاً أو يريد أن يتبنى مواقف متشددة وإنَّما يريد شعبه والعالم أن يقرأوه. كان دائمًا صلباً حيث يجب أن تكون الصلابة وناعماً متعاطياً للحوار ومؤمنًا به حيث يجب.

فقد ظلَّ الرجل الذي عرفته ووضعت عن رؤيته كتاب "مجسد الدولة الرئيس محمود عباس" يؤمن بالسَّلام العادل ويؤمن بمواصلة الكفاح بأسلوب المقاومة الشعبية السلمية التي تأخذ بشمول كل الشعب وبالتراكم والاستفادة من الخبرات.

وأبو مازن الذي لا يؤمن بأسلوب الهبّة والفزعة وحرق المراحل وتحويل الشعب إلى وقود لإنفاذ غايات ومصالح حزبية وفئوية ضيقه ما زال يتمسك برأيه وما زال قادراً على تشخيص الحالة على تعقيدها وما زال يدرك أنَّ الشعب الفلسطيني لا بد منتصر وذاهب إلى حقوقه وأنَّ الاحتلال إلى زوال، مهما أمعن في أساليبه وأن الإدارة الأميركية التي يقودها الغرور والطيش والعنجهية ويغريها ضعف البعض العربي والطأطأة وتفضيل المصالح الضيقة على العامة والعودة إلى وضع الرأس في الرمل والأخذ بمقولة "كل يقلع أشواكه بيده"، هذا الموقف أو الحالة لم تجعل أبو مازن يكفر بالأمة وانتمائها للقدس وفلسطين ولكنّه يعمل على نش الذباب عن العين الفلسطينية وهو يقول لذلك البعض: "حلو عنا" فهو أكثر قائد فلسطيني في تاريخ الصراع المعاصر مع إسرائيل يدرك حجم ونوعية تعاطي هذا البعض مع القضية الفلسطينية وله في ذلك أوراق وكتب ومذكرات عدت إليها واستفدت منها في كتابي عنه.

لن يضعف الرئيس عباس لا أمام المرض ولا أمام الضغوط الأميركية والدولية وحتّى بعض العربية وسيمضي بإرادة شعبه الذي يلتف حوله ويؤمن بنهجه.

لم يكن أبو مازن شعبويا ولم يسع لذلك ولا يريد ذلك فالحقيقة عنده أولى من الشعبوية وخدمة كفاح شعبه وسعيه نحو الاستقلال وحق تقرير المصير أهم من الشعارات التي أكل منها الشعب الفلسطيني كثيراً ولذا فإنَّ أبو مازن يحيل تعقيدات الصراع الآن إلى إرادة شعبه ويرى أن هذا الشعب الذي جدد الثقة فيه وبه في رضى يلمسه أي مراقب منصف خاصة وأن موقف الرئيس أبو مازن يتميز في الأشهر الأخيرة كثيراً عن أي موقف عربي أو حتى فلسطيني سابق.

ولأن الرائد لا يكذب أهله ولا يخذلهم فإنَّ شعبنا لن يقول للرئيس عباس إلاّ أن يمضي به إلى أهدافه الوطنية.. وسيسند مواقفه القائمة ويدين من يخذل الرئيس في الداخل والخارج أو من يضعف أمام لحظة الصمود أو يزايد في لحظات يتساوى فيها الشجاع والجبان.. لقد ثبت سلامة وصلابة رؤية الرئيس أبو مازن في المعركة السياسية الصعبة والمعقدة التي يقودها والتي فيها جزء من غدر من هو محسوب على الأمة ممن أرادوا أن يتحولوا إلى أدوات للاحتلال معتقدين أن زرع بذور في الحواضن يمكن أن تنبت قيادات في ارض فلسطين وذلك وهم جربوه ويعيدون محاولة تجريبه دون أن يعتبروا ويتعظوا أنَّ الشعب الفلسطيني لا يقبل الاحتلال والوصاية ومصادرة قراره المستقل.

أدعو للرئيس أبو مازن بطول العمر لمواصلة قيادة نضال شعبه فهو اليوم أكثر من أي يوم مضى قرير العين مؤمنًا واثقًا راضيًا عن مسيرة طويلة قطعها وقد أكرمه ربه بمواقف مشهودة أبعدته عن كل ما يمكن أن ينال من سمعة قائد بحجمه.. تتكشف اليوم أكثر من أي يوم مضى صلابة موقف الرئيس عباس وإيمانه بإرادته وإرادة شعبه وهذا ما يُحيّر أصدقاءه قبل أعدائه. فالخيل الأصيلة تصل بالسّباق الى لحظته الأخيرة وقد فازت.