فاز الرئيس الروسي فلادمير بوتين بولاية رئاسية رابعة مدتها ست سنوات، من دون شك أن الشعب الروسي، الذي انتخبه بنسبه تفوق الـ 76% قد نصبه قيصراً في مرحلة حاسمة جدا سيتقرر خلالها موقع روسيا في سلم كبار النظام الدولي الذي يحتدم الصراع حوله.
عام 2000 عندما تسلم بوتين الرئاسة للمرة الأولى من بوريس يلتسن، كانت روسيا قد خرجت مهزومة من الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفييتي ومعسكره الاشتراكي، وكان هذا البلد العملاق يئن تحت وطأة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وكان الحديث يدور في حينه أن روسيا قد أصبحت من دول العالم الثالث الكبرى، لذلك يعود لهذا القائد الروسي الفضل في إعادة بناء روسيا ووضعها مجددا بين الدول المنافسة، انه باختصار حقق لروسيا الاستقرار والازدهار.
ومع ذلك، فإن الرئيس بوتين ومعه القيادة الروسية، وبرغم الانجازات المهمة، فإنهم يدركون إنهم لا يزالون في منتصف الطريق، وان أمامهم تحديات كبيرة كي يستقر موقع روسيا بالنظام الدولي الآخذ بالتبلور حالياً. من دون شك أن بوتين قد سجل نقاطا مهمة خصوصا في سوريا، ولكن حتى في هذا الأمر لا يزال الحسم النهائي بعيد المنال.
المسألة الحاسمة التي تحدد موقع روسيا في النظام الدولي هو موقعها في الاقتصاد العالمي، فنحن نذكر أن الاتحاد السوفييتي كان الاقوى عسكريا، لكنه انهار بالأساس لأسباب اقتصادية، وبالتالي خرج مهزوماً من منافسة الحرب الباردة، التي استمرت لأربعة عقود. الرئيس بوتين الذي كان ضابطا في أهم جهاز مخابرات سوفييتي الـ "كي جي بي" وكان يراقب من موقعه عوامل انهيار الاتحاد السوفييتي، لا بد انه أدرك أهميه العامل الاقتصادي، باعتباره العامل الحاسم في أي صراع.
تحدي الاقتصاد، هو الأبرز أمام بوتين، فروسيا تأتي في المرتبة التاسعة أو العاشرة عالميا إلى جانب اسبانيا، فهي تبعد بمسافة كبيرة عن الولايات المتحدة الأميركية وحتى عن الصين التي تحتل المرتبة الثانية في الاقتصاد الدولي، ولتوضيح ذلك بالأرقام، فإن الناتج القومي السنوي للاقتصاد الأميركي يناهز 19 تريليون دولار، والصين بحوالي 12 ترليونا، واليابان ثالثا بحوالي 8 ترليونات. أما الناتج القومي لروسيا فيبلغ حوالي ترليون و300 مليار دولار فقط، كما ان الاقتصاد الروسي يعتمد بشكل كبير على النفط والغاز والمواد الخام أكثر من اعتماده على الإنتاج الصناعي المنافس.
القوة العسكرية الروسية هي التي تجعل من هذا البلد قوة عظمى منافسة، إضافة إلى الخبرة السياسية المتراكمة كدولة عظمى، منذ القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. روسيا هي الدولة المنافسة عسكريا للولايات المتحدة سواء بعدد الرؤوس النووية، أو في الصواريخ العابرة للقارات، أو في القدرة على تطوير أسلحة أكثر فتكاً، إضافة إلى وجودها المنافس في الفضاء عبر ما لديها من أقمار صناعية، وما يمكن أن تكون عليه حروب المستقبل الفضائية بامتياز.
لدى موسكو أوراق قوة، حتى الآن استخدمها بوتين بذكاء، ولكن الطريق أمامه لا تزال طويلة، خصوصاً أن المعسكر الذي يقف في مواجهته يمتلك القوة الهائلة اقتصاديا وعسكريا وعلى صعيد التفوق التكنولوجي. كما أن الصين الحليف المحتمل فإنها دولة عظمى لها مصالحها وحساباتها. فهي تنافس على الموقع الأول في قمة الهرم الاقتصادي الدولي، لذلك هي لا يمكن أن تكون دولة تابعة في محور دولي، وإنما دولة تقود محوراً وهذه إشكالية بالنسبة للحليف الروسي.
السنوات الـست المقبلة "للقيصر" الروسي، هي سنوات حاسمة، والمهم في كل ذلك أن يحافظ على التوازن وان لا يقدم على مغامرة قبل أوانها أو أن يجر إلى مغامرة ليست في مصلحة روسيا. الضمان لكل ذلك هو أن بوتين نفسه يمتلك من الذكاء ما يجعله قادرا على ضبط إيقاع طموحاته وان يجعل من سنواته المقبلة ثورة اقتصادية إلى جانب قوته العسكرية، والمهم إلا ينجح الغرب في جره مجددا إلى سباق تسلح وحروب إقليمية تستنزفه.