تحقيق: د.سامي إبراهيم

"وصلَ الختيار.. غادرَ الختيار" عباراتٌ تردَّدت على مدى سنواتٍ على مسامع قاطني منطقة الفاكهاني، فقد كان أهل تلك المنطقة يُفاخرون أنَّ الختيار الذي يعرفِهُ الجميع والذي مرَّغَ أنفَ (إسرائيل) يسكنُ بينهم.

تلكَ المنطقة التي تقع على أطراف منطقة الطريق الجديدة في العاصمة بيروت، تحوَّلت إلى ما يُشبه الثكنة العسكرية منذ أن قرَّر الختيار أن يتَّخِذها مقرّاً له، الجميع فيها على أهبّة الاستعداد للدفاع عن الختيار في حال تعرَّض للخطر، الجميع فيها يُراقب الداخل والخارج تحسُّبًا لأيِّ خرقٍ قد يُهدِّد أمن الختيار، الجميع مستعدٌ أن يُضحي بحياته فداءً للختيار، وعن ذلك يقول أبو علي - ستون عاماً- "كنا نتأهَّب كمدنيين قبل العسكر لحماية الختيار عندما نسمع أنه موجود في المنطقة"، ويتابع: "الكلُّ كان يحبُّ الرّمز، ومستعد أن يضحي بحياته من أجله، لم نكن نفرّق في المنطقة بين لبناني وفلسطيني".

الفاكهاني جمهورية الختيار!
يستذكرُ أبو علي كيف كان الجميع يتبرَّع لنقلِ المعلومات في حال اشتبه بوجود شخصٍ غريبٍ في المنطقة لأمن الـ١٧- وهي الفرقة التي كانت المولجة حماية الختيار بعد انتقاله من الأردن وسوريا وحطِّ الرّحالِ به في منطقة الفاكهاني- لأنَّ أمن الختيار من أمن المنطقة، والعكس بالعكس على حدِّ تعبيره.
لقاطني منطقة الفاكهاني أسبابهم في حماية الختيار، فهو ذلك الأب العطوف الذي يستمع إلى همومهم ويساعد في حلِّها، هو ذلك الختيار الذي يتبرَّع للفقير ويساعد المحتاج، هو ذلك الختيار الذي كان يعتبر كلَّ منزل في الفاكهاني منزلَهُ وكلَّ عائلة في الفاكهاني عائلتَهُ، وعن ذلك يقول أبو علي: "كانت منطقة الفاكهاني أشبه بجمهورية، لم يُقصِّر الفلسطينيون معنا أبدًا، فكلَّما احتجنا شيئًا كُنّا نطلبه منهم، وكلَّما اختلفنا على شيء كانوا يُهبون لحلّه".
ويعتبر أبو علي أنَّ "مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية كانت أقرب إلى مكاتب خِدماتية للناس أكثر منها مكاتب عسكرية أو سياسية"، فالجميع كان يستفيدُ منها من دون استثناء، ومن دون النظر إلى جنسيةِ أو لونِ أو طائفةِ الشخص كما هو الحال في يومنا هذا. ويؤكِّد "كانت مكاتب الختيار تُساعد اللبناني والفلسطيني والسوري والعراقي والجزائري والتونسي والسوداني، الجميع كان يأتي إلى هذه المنطقة طلباً للمساعدة، ولم يخرج منها مخذولٌ واحد!".
كلام أبو علي يؤكِّده أبو رامي.ل (٧٤ عامًا) والذي كان يُقيم في منطقة الفاكهاني حتى العام ١٩٩٠ قبل انتقاله إلى منطقة أخرى. تتبّعتهُ مجلّة "القدس" لتحصل على حديث معه عن الختيار.
 يبدأ أبو رامي حديثه بوصف الفاكهاني بـ"جمهورية الختيار"، ويُضيف: "على الرغم من أنَّها لم تكن تزيد عن كيلو متر مربّع واحد، لكنَّها تحوَّلت إلى الحاضنة الأولى للختيار".
ويتابع أبو رامي مُستذكرًا "ما كانَ طيفُ الختيار يطلّ حتى ترتسم الابتسامة على وجوه القاطنين في المنطقة، فهو كان ذكيًّا وفطنًا يعرف كيف يجعل الجميع يحبُّه، صغاراً وكباراً. وعلى  الرغم من انشغاله الدائم لم ينسَ الختيار ولو لمرة واحدة أن يملأ جيوبه بما لذَّ وطاب من السكاكر ليوزِّعها على الأطفال في المنطقة كلّما لمَحوهُ، أمَّا بالنسبة للكبار فلم يكن يتأخَّر في تلبية طلباتهم ومساعدتهم".
ويرى أبو رامي أنَّ الختيار كان متواضعاً لدرجة أنَّه كان يبادر بالحديث إلى الناس، ويسأل عن احتياجاتهم، "كان هو الذي يبادر إلى التحية، ويستغفل حرسَهُ للاقتراب منّا والالتصاق بنا، على عكس السياسيين في هذه الأيام، وما كان عليك إلا أن تطلب منه أي شيء تحتاجه حتى يعتبر الأمر قد قضي".

شواهد على عظمة الختيار والثورة
على الرغم من مرور السنوات إلا أنَّ المنطقة لا تزال تحمل في جوانبها شواهدَ كثيرة على أنَّ الختيار مرَّ من هنا، فترى اللبناني يتقاسم والفلسطيني في تلك المنطقة الأبنية والمحلات التجارية والجلسات. كثيرةٌ هي المباني القديمة في الفاكهاني، ولا يخلو الأمر من بعض الخروق التي سجَّلتها بعض المباني الحديثة، لكنَّها لم تُغيِّر في شكل وجوهر الفاكهاني.
يبادر أبو رامي بالتبرُّع بأخذ "القدس"، في جولة في المنطقة التي كان يُقيم فيها الختيار، ويؤكِّد أنَّه منذ أن قرَّر الختيار أن يحطَّ الرحال في الفاكهاني حتى أصبح أهلُها يتفاخرون بأنَّ منطقتهم مقرٌّ للرمز، فبعد أن شاهدوا بطولاته على غير جبهة، وفي غير منطقة ها هو اليوم يسكن بينهم يشاطرهم أحزانهم وأفراحهم، ينام في أَسِرَّتهم، ويأكل على موائدهم.
في الطريق إلى ذلك المبنى والذي يقع خلف جامعة بيروت العربية، لا ينفك أبو رامي يخبرك كيف كان الختيار كثير التنقُّل، وكيف كان يفاجئ الناس أحيانًا بالدخول إلى منازلهم للاطمئنان عنهم، وكيف كان يقضي لياليه يسامرهم ويحدِّثهم عن شوقه لفلسطين. ويؤكِّد أبو رامي أنَّ الختيار كان شديد الحزم مع حراسه إذا قاموا بالتجاوز على السكان، إذ كان يعتبر أنَّ الفلسطينيين ضيوفٌ في تلك المنطقة، ولا يحقّ للضيف أن يكون ثقيلاً على أصحاب المنطقة.
كانت تلك الصفات التي جعلت الناس والسكان يعشقون الختيار، فهو الحكيم والناصح والمساعد والمتواضع، الذي لم تكن تُهمُّهُ المظاهر، وهو لذلك اختار هذه المنطقة وذلك المبنى بالتحديد.
وقبل أن تصل إلى ذلك المبنى الذي كان في يوم من الأيام شاهداً على قيام الثورة الفلسطينية وقيامة المارد الفتحاوي، يطيب لأبي رامي أن يؤكِّد أنَّ "الختيار لم تكن تُهمُّهُ المظاهر، ولم يكن يسعى إلى مناصب، ولذلك كان قائداً وقدوةً يُحتذَى بها"، يشوقك أبو رامي لرؤية ذلك البناء الضخم الذي كان يضم مقر الختيار.
وأنتَ تمشي ومضيفك في الشارع يعتريك شوقٌ لرؤية ذلك المبنى. تريد لخطواتك أن تتسارع،  لكن أبا رامي لا يستسلم ويكمل حديثه وهو يشير بيمناه ويسراه، هنا كان الأخ راجي الحكيم، وهنا كان يتردَّد الأخ أبو جهاد، وهنا كان القصف ينهمر علينا، وهنا كان حاجز لفرقة الـ١٧ المولجة حماية الختيار، وهنا مكتب منظمة التحرير، وآخر للجبهة الشعبية، وهنا وهنا وهنا. ولكن ما أن تصل إلى المبنى حتى تُصاب بالذهول، فهو مبنى صغير لا يرتفع أكثر من عدّة طبقات. ذلك المبنى المتواضع الذي شغَلَ استخبارات العالم بقي شاهداً على عظمة الختيار وتواضعه على الرغم من الرصاصات التي بقيت فيه لتُخلِّد ذكرى ما تعرَّض له الختيار.
مرَّت الأيام وأهالي الفاكهاني يفاخرون بوجود الختيار بينهم، حتى العام ١٩٨٢ عندما بدأ الاجتياح الصهيوني للبنان، كانت تلك من أصعب الأيام على الختيار لا لأنَّه يهاب الموت، بل لأنَّ المنطقة التي أحبَّها كانت وأهلها تتعرَّض لقصف بسبب الختيار، فالعدو الصهيوني شرَّع لنفسه قصف المدنيين والعُزَّل تحت شعار تصفية الختيار، وأبى الختيار أن تُدمَّر المنطقة التي أحبَّ، فكان الخيار الأصعب عليه وهو ترك الفاكهاني ليتوجَّه بعدها إلى تونس.
سنواتٌ مرَّت منذ أن كان الختيار في تلك المنطقة، اختلفت بعض أزقّتها، لكن محبَّة الناس للختيار لم تتغيَّر. فهُم وعلى الرغم من استشهاد الختيار لا يزالون يتذكَّرونه بالخير.
ذلكَ الختيار الذي مرَّ من الفاكهاني هو الرئيس الرّمز الشهيد الختيار ياسر عرفات.