أجملُ ما في "فتح" أنَّها تعرفُ كيف تلمّ أبناءها.. هي لا تُنادي، ولا ترفعُ صوتَها.. فقد أتقنت فنَّ مخاطبتهم بإشارةٍ من عينها، وبمجرد أن تُطلق تلك الإشارة يتنادى الأبناء من كلِّ فجٍّ عميق، يتسابقون في الجري نحوها ليتمكّن الفائزون في السباق من لمس خيطٍ يتدلّى من أطراف ثوبها أو بمسحةٍ من يدها على رؤوسهم.. لا وجود لجائزة عند الفتحوي أعظم شأنًا من رضى "فتح" عنه..

"فتح" تنادي أبناءها في مناسباتٍ ليس كمثلها مناسبات.. اليوم أومأت إليهم برمشها ليأتوها زاحفين إلى ساحة السرايا.. قد يكون بعضُ أبنائها قد خرجوا للتو من مشاجرة حامية، وقد يكون أحدهم قُدَّ قميصُهُ أو جُرِحَت أذنُه وظهرت عليها آثار أسنان أخيه أو أخته لسبب لا نعرفه.. ولكنّهم حين ينتبهون لإشارة أمهم "فتح" ينسون كل شيء.. ويهرولون إليها.. اليوم كان لندائها طعمٌ آخر.. فليس كمثل هذا اليوم يومٌ يشبهه.. لقد شعرت الأمُّ أنَّ بعض الأنفس قد أصابها الهزال فنادتنا جميعاً لنستقي عبق الوطن من اسم "أبو عمّار".. فهي تدرك بحكم تجربتها معنا أنَّ لا أحد يُجمّعنا مثل سيرة "الختيار".. كنا نتحلَّق اليوم حول كوفيّته وكأنّنا أطفالٌ صغار يتجمعون حول كانونٍ يشعّ دفئاً.. ويستمعون إلى حكايات أمهم عن فارس الفرسان: لم يكن أبو عمار رجلاً كبقية الرجال.. لا احد يشبهه ولا هو يشبه أحداً.. نسجَ لنا من جرحه بوابةً تتسع لحلم شعب بأكمله، وكان كلما اشتدّ الحصار من حولنا يلقي نفسه في وسط الحريقة ليحمينا نحن من لهيبها، كانت النار تخشاه وترجوه أن يخرج منها، وكان يستمر ويراوغ في محاورتها حتى تخضع لشرطه الوحيد: ضعيني في مكان أقرب إلى القدس.. وظلَّ يتقن فنّ هزيمة الحرائق حتى صارت تُضرب به الأمثال..

نادتنا "فتح" اليوم لنشهدَ شيئًا من سحر أبو عمار في ساحة السرايا: لم يُخرج حيّةً من جرابه.. لكنّه وفي لحظةٍ واحدةٍ أنهى قصّة الانقلابيين والمفصولين والواقفين في طابور الانتظار علّهم يشهدون نهاية "فتح".. فإذا بأبي عمار يحملنا كطفلٍ صغير بين ذراعيه ويضعنا بلطف في الجهة المشرقة من الحلم، ثم يهمس في أذن كل واحد منا: لا تنسوا أن تُردِّدوا كلما ضاقت بكم السُّبل: "يا جبل ما يهزك ريح".